بينما كانت الشمس تلامس الأفق، مرسلةً خيوطها الذهبية على صفحة نهر النيل، كان مركبنا يتهادى فوق مياه بحيرة ناصر، ونحن نراقب الطيور المهاجرة، تلك الطيور التي قطعت آلاف الكيلومترات من أوروبا إلى إفريقيا بحثًا عن ملاذ آمن من قسوة شتاء أوروبا، لتجد نفسها وسط نيران الصيادين.
في يناير 2024، وسط هذه المشاهد الهادئة، بدأنا نكشف عن عالم خفي من الصيد الجائر، عالم يتقاطع فيه الجمال مع الوحشية؛ حيث تتحول الملاذات الطبيعية إلى ساحات إبادة.
تواترت الأدلة على ذلك، وكانت في كل مكان في مالطا، حيث داهمت وصادرت السلطات مخازن مليئة بجلود وجثث الطيور، ثبت ارتباط العديد منها بعمليات صيد جائر تمت في مصر. مشاهد صادمة لمئات الطيور وقد سلبت منها الحياة، مشاهد موثقة في تقارير الضبط، شاهدةً على مأساة بيئية تتشابك فيها المصالح السياسية والثقافية، مع الإهمال القانوني.
في عام 2017، صُدم هاشم مرسي، مراقب طيور مصري، وهو يجوب الطبيعة مراقبًا الطيور بمشهد مروع، رأى قرابة الـ 7.000 طائر نافق على امتداد 15 كيلومترًا بالقرب من بورسعيد، مع دلالات واضحة على تورط صيادين مالطيين: طيور ملفوفة بأغلفة بلاستيكية تحمل كتابات مالطية.
في مكالمة هاتفية مع محمود*، وهو دليل صيد مخضرم، كشف لنا عن طبيعة الصيادين الأجانب في مصر: “حيث يبحث الصيادون الإيطاليون عن البط، لكن المالطيين يريدون كل شيء. يقتل المالطيون أي شيء يتحرك، حتى الكلاب الضالة إذا سنحت لهم الفرصة، وكنت بصحبة صيادين مالطيين في أسوان، وفعلنا كل ما يمكن فعله هناك”.
من أسوان، تعمق تحقيقنا في الريف المصري، متتبعًا أثرًا قاتمًا يقود إلى الفيوم وما بعدها. وكشفنا هناك بصمات رقمية لمجموعات من الصيادين المالطيين، وهم يتباهون بطرائدهم النادرة على وسائل التواصل الاجتماعي. في قلب هذا النشاط الدموي، تكمن تجارة التحنيط: حيث يتم اصطياد الطيور النادرة وتهريبها بعناية، ليتم حشوها وتحويلها إلى قطع ديكور، تزين غرف المعيشة في مالطا.
في أحد المقاهي الصغيرة المطلة على بحيرة قارون، التقينا بمصطفى*، دليل صيد آخر، لم يتردد في وصف تفضيلات عملائه المالطيين: “النحام (الفلامنغو) وأبو ملعقة؛ هذه هي الطيور التي يفضلونها”، قال مصطفى* قبل أن يضيف جملة تكشف عن حجم التجاوزات: “يمكن أن تكون جالسًا بجانب الماء، وفجأة يظهر غزال فتطلق عليه النار وتصطاده”.
تتبع هذا التحقيق عبر القارات، الخلل العميق في جهود الحماية الدولية؛ حيث باتت مصر التي تعج سماؤها بحوالي 500 نوع من الطيور المهاجرة والمقيمة، مسرحًا لصيد جائر يهدد التوازن البيئي. ومع التعمق في القضية، أصبح حجم التدمير البيئي غير قابل للإنكار.
على مدى عقود، تدفقت ملايين اليوروهات من صناديق الاتحاد الأوروبي لحماية هذه الأنواع، فقط ليتم اصطيادها في مصر بلا رحمة على أيدي صيادين أوروبيين فرّوا من القيود المفروضة عليهم في بلادهم. إنها شبكة تعتاش بالخروج على القانون، حيث تحلق الطيور تحت رحمة الرغبة البشرية في الامتلاك والسيطرة.
من خلال شهادات حصرية من ناشطي الحفاظ على البيئة ومنظمي رحلات الصيد، وسجلات رسمية للمداهمات والاعتقالات، يكشف هذا التحقيق الحاجة الملحّة إلى تعاون دولي حقيقي، لضمان الالتزام بالتعهدات العالمية لحماية الحياة البرية.
تقاليد خرجت عن السيطرة: داخل ثقافة الصيد في مالطا
تعد ثقافة الصيد في مالطا ظاهرة معقدة، متجذرة في التقاليد، لكنها باتت تثير جدلاً متزايداً. يشير البروفيسور مارك فالزون، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة مالطا، إلى أن القيود الجغرافية للجزيرة وقلة الأنواع المحلية تجعل الطيور المهاجرة هدفاً رئيسًا للصيادين.
وتُعد مالطا من بين الدول التي تسجّل أعلى كثافة للصيادين على مستوى العالم، حيث يوجد ما يقارب 75 صيادًا لكل كيلومتر مربع من الأراضي التي يمكن الصيد فيها. ووفقًا للدكتور براين كامبل، المحاضر في الأنثروبولوجيا بجامعة بليموث؛ فإن “الرغبة في الصيد تدفع العديد من الصيادين المالطيين إلى البحث عن آفاق جديدة”، مشيرًا إلى أن قضية الصيد في مالطا أصبحت “ساحة معركة مستقطبة بشدة، حيث تتصادم قضايا السيادة والحفاظ على البيئة والهوية الوطنية بشكل مباشر”.
وقد دفعت القوانين الصارمة للاتحاد الأوروبي العديد من الصيادين المالطيين إلى السفر خارج البلاد لممارسة هوايتهم، وتُعد مصر واحدة من الوجهات المفضلة لديهم. ويؤكد كامبل أن هؤلاء الصيادين يرون في هذه الرحلات “نسختهم الخاصة من الجنة، حيث يطلقون العنان لمكبوت نفوسهم بعيدًا عن القيود المفروضة عليهم في بلادهم”.

يعود تاريخ الصيد في مالطا إلى فترات الفقر، حيث كان السكان يعتمدون على صيد الطيور كمصدر للغذاء. لكن مع مرور الزمن، تحول إلى هواية تحمل دلالات اجتماعية تتعلق بالمكانة،” كما يوضح نيكولاس باربرا، رئيس قسم الحفاظ على البيئة في منظمة BirdLife Malta المحلية.
أما بيرتي فيرنز، مدير برامج تربية الأنواع المهددة، والذي أجرى دراسات حول قوانين الصيد في مالطا؛ فيشير إلى الجاذبية الخاصة التي تتمتع بها الطيور الجارحة بالنسبة للصيادين. ويقول: “الاحتفاظ بنسر محنط في المنزل يمنح شعورًا بالقوة والفخر”.
ويرى البروفيسور مارك فالزون أن الصيد يتجاوز مجرد كونه تقليدًا أو نشاطًا فرديًا، ليصبح جزءًا من هوية الصيادين الاجتماعية، مشبهًا الأمر بتشجيع كرة القدم: “كما يتباهى المشجعون بحضور جميع المباريات في ملاعب مختلفة، يتفاخر الصيادون بمغامراتهم وإنجازاتهم في الصيد. إنها ليست مجرد عادة؛ بل شغف عميق لا ينبغي التقليل من شأنه”.

وأوضح فالزون أن مصطلح “نامرا” -وهو تعبير مالطي يصف الشغف العميق بالصيد- هو ما يميز الصيادين الحقيقيين عن مجرد الهواة. وأضاف: “الصياد الحقيقي هو من يضحي، ويستيقظ في ساعات الفجر الأولى من أجل صيد الطيور”.
لوبي الصيد في مالطا: بين النفوذ السياسي والجدل البيئي
لا يقتصر الصيد في مالطا على كونه مسألة ثقافية؛ بل يُعدّ قوةً سياسيةً مؤثرةً تمتد إلى أعلى مستويات السلطة؛ فقد وُجّهت اتهامات لوزير جزيرة غوزو، كلينت كاميلييري، الذي يُقال إنه من الصيادين وممارسي الفخاخ، بالتحايل على لوائح الاتحاد الأوروبي منذ توليه مسؤولية ملف الصيد عام 2020.
وفي هذا السياق، علّق مارك سلطانة، الرئيس التنفيذي لمنظمة BirdLife Malta، قائلاً: “يعتقد السياسيون في مالطا أنهم مضطرون لمنح الصيادين ما يريدون؛ فقط لضمان الحصول على أصواتهم”.
ومع اقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024، أصدر اتحاد مالطا للصيد (FKNK) بيانًا بعنوان “لماذا يجب أن يصوّت الصيادون وممارسو الفخاخ في الانتخابات الأوروبية؟”، مشيرًا إلى التأثير الكبير الذي سيمارسه أعضاء البرلمان الأوروبي خلال السنوات الخمس المقبلة على صياغة قوانين الصيد، وحماية الأنواع، وتنظيم تشريعات الأسلحة النارية.
أيّد ستة مرشحين من حزب العمال الحاكم في مالطا بيانًا مؤيدًا للصيد، والذي روج له اتحاد مالطا للصيد والحفاظ على البيئة (FKNK)، مما يؤكد التأثير السياسي القوي للوبي الصيد. ومن بين هؤلاء المرشحين كان ستيف إلول، وهو ذو صلة عائلية بشخصيات سبق أن أُدينت بانتهاك قوانين حماية الحياة البرية.
في عام 2022، أُدين عمه ماريو إلول بتجاوز قوانين حماية الطيور؛ حيث تم عقابه وتغريمه بـ 6.000 يورو (ما يعادل 6.360 دولارًا أمريكيًا)، وتم تعليق رخصة التحنيط الخاصة به لمدة عامين. أما كينيث إلول، ابن عم ستيف، فقد غُرّم 1000 ليرة مالطية (ما يعادل 3,130 دولارًا أمريكيًا) عام 2007، لحيازته جلود طيور محمية.
حاولنا التواصل مع كلينت كاميلييري، وستيف، وماريو، وجوزيف، وكينيث إلول، لسؤالهم عما إذا كانوا يعتقدون أن مالطا تخضع لنفوذ سياسي قوي من قبل لوبي الصيد، لكن لم نتلقَ أي رد قبل موعد النشر.
وفي مكالمة هاتفية مع ماريو إلول، قام بإغلاق الخط فور الإشارة إلى رحلات الصيد في مصر.
أكد البروفيسور مارك فالزون، خلال حديثه معنا، أن الاستفتاء المتعلق بالصيد خلال موسم الربيع، كان واحدًا من ثلاثة استفتاءات فقط أُجريت في مالطا خلال الأربعين عامًا الماضية. وقال فالزون: “في مالطا، يُعد الاستفتاء حدثًا نادرًا جدًا […] نحن لسنا في سويسرا. يعطيك ذلك فكرة عن مدى حساسية هذه القضية سياسيًا”.
في 11 أبريل 2015، نظمت تحالفات بيئية استفتاءً يهدف إلى إلغاء الصيد الربيعي لطائري القمري والسمان. وجاءت النتيجة بفارق ضئيل للغاية، حيث صوّت 50.44% لصالح الإبقاء على الصيد، مقابل 49.56% ضده، مما يعكس الانقسام الحاد في المجتمع المالطي حول هذه القضية.
لعبت القوانين المتعلقة بصيد الطيور في الاتحاد الأوروبي (EU’s Birds Directive) دورًا أساسيًا في الضغط على مالطا لتنظيم صيد طائري القمري والسمان؛ خاصة خلال موسم هجرتها الربيعي، في محاولة للحد من تأثير الصيد على هذه الأنواع المهددة بالانقراض.
وصف البروفيسور مارك فالزون اتحاد مالطا للصيد (FKNK) بأنه “لوبي صيد قوي”، لكنه أشار أيضًا إلى دوره المزدوج؛ حيث يدافع عن مصالح الصيادين، بينما يسعى من الناحية الرسمية، إلى تنظيم رحلاتهم للصيد.
وأوضح فالزون أن الاتحاد لا يتسامح رسميًا مع الصيد غير القانوني؛ إذ يواجه الأفراد المدانون بانتهاك قوانين الصيد، خطر فقدان عضويتهم في FKNK، مما يعني عمليًا حرمانهم من الحصول على رخصة صيد.
ومع ذلك، أقر فالزون بأن “هناك فرقًا بين ما يفعله اتحاد الصيد رسميًا، وبين ما قد يفعله بشكل غير رسمي”.
حاولنا التواصل مع لوكاس ميكالف، رئيس اتحاد مالطا للصيد (FKNK)، للحصول على تعليق بشأن النفوذ السياسي للاتحاد ودوره التنظيمي، إضافة إلى الانتهاكات التي ارتكبها الصيادون المالطيون في مصر. لكننا لم نتلقَّ أي رد حتى تاريخ النشر.
التحايل على قوانين الصيد الأوروبية
يفرض الاتحاد الأوروبي قوانين صارمة على الصيد لحماية التنوع البيولوجي؛ لا سيما الطيور المهاجرة؛ ما جعل الانضمام إلى الاتحاد يعني فرض رقابة مشددة على الريف المالطي، وفقًا للبروفيسور مارك فالزون. وأصبحت هذه المناطق ساحة مراقبة دائمة من قبل جماعات الحفاظ على البيئة، مما زاد من التوتر بين الصيادين والنشطاء البيئيين.
وتصاعدت المواجهات بين الطرفين إلى مستويات خطيرة؛ حيث لم يتردد الصيادون في استخدام العنف لحماية هوايتهم؛ فالمعارك في مالطا ليست مجرد خلافات بيئية؛ بل تحولت إلى صراع مفتوح: رصاص يطلق، سيارات تحترق، ونشطاء يواجهون تهديدات لحياتهم. عقود من الترهيب، من إطلاق النار على مراقبي الطيور إلى هجمات الحرق العمد والكمائن. وفي تصعيد مروّع، تعرضت سيارة مارك سلطانة، الرئيس التنفيذي لمنظمة BirdLife Malta، للتخريب؛ حيث تم تمزيق إطاراتها، في رسالة واضحة بأن القضية تتجاوز الصيد إلى صراع على السلطة والنفوذ.
وأكد سلطانة أن هذا التصعيد يفسر لماذا يبحث الصيادون المالطيون عن أماكن صيد خارج البلاد. وقال: “يسافرون إلى مصر ودول أخرى لقتل الطيور، لأنهم يستطيعون القيام بذلك بأعداد أكبر بكثير دون قيود”.
أكد مارك سلطانة “أن أعداد الطيور في مالطا تراجعت بشكل كبير، لكن في إفريقيا؛ حيث تقضي هذه الطيور الشتاء، تصبح أهدافًا سهلة للصيادين قبل هجرتها نحو الشمال”.
برزت وسائل التواصل الاجتماعي كعامل رئيس في تسهيل هذه العمليات؛ حيث أتاحت للصيادين المالطيين التواصل عبر الحدود، ومشاركة صور غنائمهم وإنجازاتهم، مما عزز ثقافة التباهي بالصيد غير المقيد.
وأشار الباحث بيرتي فيرنز إلى أن هذه المنصات تسمح للصيادين المالطيين بمراقبة نظرائهم في مصر ودول أخرى، مما يؤجج إحساسهم بالمظلومية تجاه القوانين الأوروبية الصارمة. وأوضح فيرنز أن الصيادين يتساءلون: “لماذا نتعرض للعقوبات هنا؟ […] بينما يمكن لهذه الطيور أن تهاجر في غضون أيام إلى بلد آخر؛ حيث يصبح الصيد أشبه بفوضى بلا قيود؟”.
انتقد البروفيسور مارك فالزون النهج قصير النظر الذي تتبعه سياسات الاتحاد الأوروبي في حماية الطيور، مشيرًا إلى أن الطيور المهاجرة لا تعترف بالحدود السياسية. وقال فالزون لنا: “لا فائدة من حماية نوع مهاجر في النقطة (أ) إذا كان سيتم قتله في النقطة (ب)”.
وأضاف فالزون أن الخطر لا يقتصر على الطيور المهاجرة فقط؛ بل يمتد ليشمل الأنواع المقيمة في مصر، والتي أصبحت أيضًا ضحية لرحلات الصيد العشوائية التي يقوم بها الصيادون المالطيون.
قوانين الصيد في الاتحاد الأوروبي مقابل مالطا
يفرض توجيه الطيور الأوروبي (Directive 2009/147/EC): حماية جميع أنواع الطيور البرية التي تتواجد بشكل طبيعي في الاتحاد الأوروبي. كما يحظر الصيد خلال فترات حرجة مثل الهجرة والتكاثر، ويقيد بشدة الأنواع التي يمكن صيدها، مع السماح باستثناءات مشروطة لا تؤثر على حالة الحفظ البيئي للأنواع.
تمتد التزامات الاتحاد الأوروبي إلى دعم مشاريع الحفاظ على البيئة من خلال برنامج LIFE، الذي يهدف إلى استعادة الموائل وتأمين مسارات الهجرة.
ما زال قتل وتهريب الطيور البرية يمثل مشكلة خطيرة في الاتحاد الأوروبي. وتشير تقديرات المفوضية الأوروبية إلى أن 25 مليون طائر يتم قتلها سنويًا حول حوض البحر الأبيض المتوسط، خلال هجرتها بين أوروبا وإفريقيا.
بسبب انتهاكات مالطا المستمرة، أحالت المفوضية الأوروبية قضية مالطا إلى محكمة العدل الأوروبية، لا سيما فيما يتعلق بترخيص صيد العصافير المغردة تحت إعفاء بحثي غير قانوني.
في ظل الاتفاق الأخضر الأوروبي واستراتيجية الاتحاد الأوروبي للتنوع البيولوجي 2030، تشكل ممارسات مالطا تهديدًا لأهداف الحفاظ على التنوع البيئي في أوروبا.
القوانين المصرية: تنظيم ضعيف وسط أزمة بيئية متفاقمة
على الرغم من تصاعد الأزمة البيئية، ما زالت قوانين الصيد في مصر تعاني من ضعف في التنفيذ والرقابة.
صرّح هيثم إبراهيم، مدير برامج الحماية في جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، لنا، بأن القوانين الحالية بحاجة إلى إصلاح شامل، مؤكدًا أن الأنظمة القائمة تفشل في حماية الأنواع المهددة بالانقراض، مما يعزز سمعة مصر كوجهة “يمكنك فيها الصيد بسهولة، بعيدًا عن أي قوانين صارمة”.
وفي 27 أغسطس 2024، أصدرت وزارة البيئة المصرية القرار رقم 204، الذي وسّع نطاق تصاريح الصيد السياحي، ليشمل محافظتي الوادي الجديد وسوهاج، مما أثار مخاوف بشأن التأثيرات البيئية المحتملة لهذه التعديلات.

وصف خالد النوبي، المدير التنفيذي لـ مؤسسة حماية الطبيعة في مصر (NCE)، القرار رقم 204 بأنه “كارثة بكل المقاييس”، مشددًا على أن الواحات في الوادي الجديد تُعد من أكثر النظم البيئية هشاشة على الكوكب؛ فهي ملاذ طبيعي للطيور المهاجرة والمقيمة وسط الصحراء الشاسعة.
في حديثه لنا، أوضح هيثم إبراهيم أن الواحات لا تدعم الحياة البرية فحسب؛ بل تعد شريانًا أساسيًا للزراعة وإنتاج التمور، محذرًا من أن انهيار أي جزء من هذا النظام سيؤثر على المنظومة بأكملها. وقارن “إبراهيم” بين الواحات والجزيرة وسط خندق عميق، قائلاً: “بدونها، لا يمكن لأحد العبور إلى الضفة الأخرى”.
انتقد النوبي بشدة القوانين المنظمة للصيد، مؤكدًا الحاجة إلى دراسات معمقة لضمان إدارة مستدامة للموارد الطبيعية. وأضاف: “أي شيء أقل من ذلك هو دعوة إلى كارثة”.
وأشار إبراهيم إلى أن الضغوط التي تمارسها شركات السياحة، قد تكون الدافع وراء إصدار القرار 204، والذي جاء على الأرجح كخطوة تعويضية بعد حظر الصيد في بحيرة ناصر في سبتمبر 2023.
حاولنا التواصل مع وزارة البيئة المصرية للاستفسار عمّا إذا كان قد تم إجراء أي دراسة علمية قبل السماح بالصيد السياحي في الواحات. كما طرحنا تساؤلات حول احتمال وجود ضغوط من قطاع السياحة في اتخاذ هذا القرار، لكننا لم نتلقَّ أي رد في الوقت المناسب للنشر.
منظمو رحلات الصيد
يدخل الصيادون المالطيون إلى مصر بتأشيرات سياحية عادية تُمنح عند الوصول، وفقًا لمنظمي الرحلات والوثائق التي راجعناها. وتصدر التصاريح اللازمة عبر الأمن الوطني ووزارتي البيئة والسياحة.
تعمل شركات محلية وسيطة على تسهيل إجراءات التصاريح، مما يتيح للصيادين إحضار الأسلحة والذخيرة إلى مصر، مع السماح لكل صياد بحمل ما يصل إلى 500 خرطوشة. ولا تقتصر هذه الأنشطة على الجهات المحلية فحسب؛ بل تسهم جهات دولية أيضًا في تسهيل عمليات الصيد غير القانوني للطيور في مصر. كايو إلول، هو أحد الأسماء المتكررة في هذه الشبكات، وقد نشر صورًا عديدة على فيسبوك أثناء ممارسته الصيد في أسوان، وهو قريب لمرشح البرلمان الأوروبي ستيف إلول.

وفقًا للتقرير الوطني للصيد لعام 2005، الممول من الاتحاد الأوروبي؛ فإن عددًا محدودًا من الشركات السياحية المحلية في مصر تنظم رحلات صيد، غالبًا بالتعاون مع مرشدين مستقلين ومشغلي قوارب. من بين الشركات المسجلة في مصر التي تتولى تنظيم رحلات الصيد: إيفل ترافيل ايجيبت، أيبيس، ساجا، ستايلاش هوليديز ترافيل، وايجيبت تايم ترافيل
في بعض الحالات، يتم تنسيق هذه العمليات من خلال شركات سياحة أجنبية.
كما تبين أن :إيفل ترافيل ايجيبت، أيبيس، ، وايجيبت تايم ترافيل قد نظمت رحلات صيد لكل من ماريو، جوزيف، وكينيث إيلول، بالإضافة إلى مواطنين مالطيين آخرين، وجميعهم أدينوا بانتهاك قوانين حماية الطيور البرية.

عند التواصل مع Egypt Time Travel للاستفسار عن دورها في تسهيل رحلات الصيد لعائلة إيلول، ردّت الشركة بأنها “تعمل بتصريح قانوني كامل، وبما يتوافق مع قوانين حماية الحياة البرية المصرية”.
وفي دفاعها عن أنشطتها، أكدت الشركة أيضًا أنها “تعمل بشكل مستقل، وليست مرتبطة بأي جهات أو كيانات غير قانونية”.
أما شركة Eiffel Travel Egypt، فقد أكدت بدورها التزامها بالقوانين المصرية، لكنها نفت أي مسؤولية عن “أي تواصل بين الصيادين وأشخاص لا يعملون لدى الشركة”.
لم تستجب بقية الشركات لطلباتنا للتعليق حتى وقت النشر..
أرض خصبة للصيد
مع بداية موسم الهجرة من سبتمبر إلى مارس، تتدفق الطيور من أوروبا وآسيا إلى مصر، حيث توفر مناطق مثل بحيرة ناصر في أسوان، والفيوم فرصًا واسعة للصيد غير القانوني.
ووفقًا للتقرير الوطني للصيد لعام 2005، برزت بحيرة ناصر كوجهة رئيسية لسياحة الصيد منذ منتصف التسعينيات. عادةً ما يقيم الصيادون على متن قوارب، متنقلين بين مدينة أسوان وقرية أبو سمبل بحثًا عن فرائسهم.

برز حسين شلالي، ابن قرية جزيرة سهيل النوبية، كأحد المدافعين البارزين ضد الصيد الجائر. يقول شلالي لنا: “عملت في بحيرة ناصر، وشاهدت المالطيين يستأجرون قوارب لرحلات طويلة؛ حيث يصطادون الطيور النادرة ويقومون بسلخها للحصول على الريش والجلود الثمينة، والتي يمكن أن تُباع بآلاف الدولارات”.
وأضاف: “إنهم يتركون الجثث على الشاطئ، مما ينشر رائحة كريهة تفسد جمال المواقع التراثية النوبية”.
كما أوضح أن الصيادين يختبرون أسلحتهم بالقرب من القرى، مما يزعج السكان ويعكر صفو الهدوء قبل انطلاقهم في رحلات الصيد.

لطالما واجه دعاة الحفاظ على البيئة صعوبات كبيرة في الحد من الأنشطة غير القانونية في بحيرة ناصر. يقول هيثم إبراهيم، مدير برنامج الحماية البيئية في جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE): “حتى مع وجود التصاريح والإجراءات اللازمة، فإن فرض الرقابة في البحيرة يكاد يكون مستحيلًا بسبب مساحتها الشاسعة. منظمو رحلات الصيد يمتلكون شبكات اتصال خاصة، ويعرفون متى يجب تجنب الدوريات”.

تشتهر الفيوم بمناظرها الطبيعية الخلابة وبحيراتها الهادئة، لكنها أصبحت وجهة مفضلة للصيادين المالطيين. وبعد رصد نشاطهم عبر الإنترنت، قررنا التوجه إلى هناك للتحقيق في ذلك.
في مكالمة هاتفية، وخلال عملنا متخفين، تظاهرنا بأننا نبحث عن فرص صيد لمجموعة من ستة أوروبيين، كشف إيهاب (اسم مستعار)، وهو منظم رحلات صيد مقيم في الفيوم، عن تفاصيل العمليات قائلاً: “لدينا مواقع خاصة في إطسا وسنورس وإبشواي، وهي منظمة جيدًا لاستقبال الصيادين من إيطاليا ومالطا”.
عرض إيهاب باقات صيد شاملة تتضمن الإقامة والتنقل والمرشدين المحليين، إلى جانب توفير كميات كبيرة من الذخيرة، مؤكدًا: 10,000″، 20,000، حتى 50,000 خرطوشة… أي كمية تحتاجها”.، أما المخاوف الأمنية؛ فقد تعامل معها بثقة، قائلاً: “لا تقلق، كل شيء منظم بالكامل، ولن يزعجكم أحد”.

تحنيط الطيور: سوق تغذيها مواقع الصيد في مصر
يواصل شغف المالطيين بتحنيط الطيور، تأجيج سوق سوداء مزدهرة للأنواع المهددة بالانقراض؛ حيث يُقال إن مواقع الصيد في مصر تلعب دورًا رئيسًا في تلبية هذا الطلب.
يشرح البروفيسور مارك فالزون أن الطيور المحنطة كانت جزءًا مألوفًا من ديكور المنازل المالطية منذ الستينيات.
ففي بعض الحالات، يعود الصيادون من مصر حاملين “جلود” الطيور -أي عينات مسطحة من الطيور المذبوحة-، مما يسهل تهريبها. وكشف فالزون عن واقعة مروعة، حيث قام أحد الصيادين المالطيين بربط مئات جلود الطيور على جسده لتجاوز الجمارك، قائلاً:
“هذا الحادث يُظهر مدى اليأس الذي يدفع البعض لتهريب الطيور إلى مالطا”.
وفي زيارة لـ المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في مالطا في فبراير 2024، اكتشفنا وجود أكثر من 15,000 طائر مُصادَر، موزعة بين جثث مخزنة في المجمدات وبين عينات محنطة.
وفقًا لمصادر تحدثت بشرط عدم الكشف عن هويتها؛ فإن 15-20% من هذه الطيور المصادَرة، مصدرها مصر. منذ عام 2004، أصبح المتحف الوطني بمثابة مستودع رسمي للطيور المصادَرة.
على الرغم من الجهود المبذولة للحد من الصيد غير القانوني، ما زال سوق التحنيط في مالطا مزدهرًا، مستفيدًا من ثغرات قانونية وتراخٍ في الرقابة. يُسلّط مارك سلطانة، المدير التنفيذي لمنظمة بيرد لايف مالطا، الضوء على دور “المجموعات غير المرئية من الطيور”، التي تعمل تحت غطاء عفوٍ قانوني سابق لانضمام مالطا إلى الاتحاد الأوروبي، مما سمح بامتلاك الطيور المحنطة بشكل غير قانوني دون محاسبة.
يشرح سلطان: “لم يتم التحقق من هذه القوائم بدقة، لذا يمكن إضافة طائر لقلق أبيض تم صيده حديثًا إلى مجموعة قديمة دون أن يتخذ أحد أي إجراء”.
لفهم كيفية انتقال هذه الطيور المهربة، سافرنا مجددًا إلى مصر في مارس 2024 للتحقق من كيفية عمل الشبكات التي تُسهل هذا النشاط.
من مصر إلى مالطا: مسار التهريب
يصف هاشم مرسي، أحد مراقبي الطيور المصريين، اكتشافًا مروعًا حدث في أبريل 2017 على ساحل بورسعيد: “عثرنا على حوالي 7,000 طائر نافق على امتداد 15 كيلومترًا”. كانت الطيور ملفوفة بأكياس بلاستيكية مختومة بالكلمة المالطية “Marzu” (مارس)، في إشارة إلى صيد حديث بنيّة تهريب الطرائد. لكن لسبب غير واضح، تم التخلص منها قبل وصولها إلى وجهتها.
كان من بين الطيور أنواع نادرة ومحمية مثل اللقلق ذو المنقار الأصفر ، طيور جارحة، اللقلق الأبيض ، أبو ملعقة الأوراسي، النحام الكبير (الفلامنغو الكبير). ذكر “مرسي” لنا أن منظمة “بيرد لايف مالطا أكدت “ دور الصيادين المالطيين في هذه الانتهاكات، وحثت السلطات المصرية على اتخاذ إجراءات صارمة ضدهم.
في عام 2020، نشر عالم الطيور الألماني يانز هيرينغ دراسة سلطت الضوء على التهديدات التي تواجه الطيور المهاجرة، مشيرًا إلى أن “صيد اللقلق ذو المنقار الأصفر والطيور المائية في بحيرة ناصر، وخاصة من قبل الصيادين المالطيين والمحليين، يبدو كبيرًا للغاية”.
سعياً لفهم آليات التهريب، تواصلنا مع مصطفى، وهو شاب دليل صيد مخضرم في الفيوم*. عندما سألناه عن قانونية الصيد في مصر، وخاصة للطيور المهددة بالانقراض، أجاب بلهجة حذرة ولكن واضحة: “أغراضك؟ لك وحدك. تأخذها معك دون أي مشاكل”.
في مقابلة سرية بكاميرا مخفية على ضفاف بحيرة قارون، كشف لنا مصطفى عن الطيور التي يفضلها الصيادون المالطيون: “الفلامنغو وأبو ملعقة – هذه الطيور التي يحبونها.

يبدو أن جاذبية الصيد في مصر لا تخلو من المخاطر، لكن مصطفى* يطمئن زبائنه بأن كل شيء تحت السيطرة.
“بعض الطيور، مثل الفلامنغو، يُحظر صيدها لأنها مهاجرة”، يقولها بابتسامة ذات مغزى.
القاعدة الذهبية وفقًا لمصطفى: “الصيد في الأماكن التي لا تخضع لرقابة الحكومة”. ورغم أن بحيرة قارون، محمية طبيعية، إلا أنه يمكن الوصول إلى مناطق معينة منها بعيدًا عن أعين السلطات.
للباحثين عن تجربة صيد أكثر تحديًا، يروج مصطفى* لمحافظة أسوان، وخاصة قرب أبو سمبل، حيث يمكن استهداف الطيور النادرة.
توسع مصطفى* في شرح عمليات التهريب، كاشفًا عن الأساليب المتبعة في تهريب الطيور المصطادة. يتم لف الطيور في غلاف بلاستيكي شفاف، ثم تُحفظ في مجمدات لفترة تصل إلى شهرين قبل أن تُعبأ مع الثلج على متن سفن الشحن. وأكد بثقة: “كل شيء يتم بسرية تامة، يتم إخفاؤها بين بضائع أخرى”، مشيرًا إلى وجود علاقات لهم داخل قطاع الشحن تسهّل عمليات التصدير غير القانوني.
وأضاف مصطفى*: “بمجرد أن نقوم بتحنيط الطيور، نشحنها عن طريق البحر، من الفيوم إلى بورسعيد، ثم مباشرة إلى مالطا”. ويشابه هذا المسار حادثة عام 2017، عندما عُثر على آلاف الطيور النافقة، مختومة بعلامات مالطية، على طول سواحل بورسعيد.

وفقًا لعُمران أحمد، وهو قائد قوارب في بحيرة ناصر، فإنه “عندما تكون إجراءات الأمن في المطارات مشددة، يلجأ المهربون إلى استخدام القوارب السريعة من منطقة شطا، قرب بورسعيد ودمياط”.
في 2 ديسمبر 2024، نشر مصطفى* على حسابه في فيسبوك صورًا له برفقة صياد مالطي في الفيوم، وهو يحمل عدة طيور مصطادة، من بينها أبو منجل اللامع، وطيور جارحة (عُقاب نَسْرِيّ وعُقاب السهوب)، وأنواع أخرى محمية. لكن لم تمضِ سوى دقائق قليلة حتى تم حذف الصور بسرعة، مما أثار تساؤلات حول دوافع الإزالة الفورية.
مصدر رزق أم ترف؟
تواصلنا مع منظمة “صيادو سانت هوبرت” (KSU)، وهي منظمة صيد مالطية تُعرف بترويجها لمدونة سلوك صارمة، للاستفسار عن أنشطة الصيد التي يمارسها المالطيون في مصر. في فبراير 2016، أنهت KSU ارتباطها باتحاد الصيادين المالطي الرئيسي FKNK.
وفي رده الكتابي لنا ، صرح رئيس المنظمة، مارك مفسود: “نستنكر قتل الطيور المحمية أينما كانت، ومن قِبَل أي شخص يرتكب هذه الجريمة”. وأقرّ بأن بعض الصيادين المالطيين يسافرون إلى مصر للصيد، لكنه انتقد التركيز الإعلامي على مالطا، مشيرًا إلى أن “مالطا لديها قوانين صارمة لمعاقبة مثل هذه الجرائم، على عكس دول مثل مصر؛ حيث أصبحت مجازر صيد الطيور هي القاعدة”.
ووصف مفسود عمليات الصيد غير القانوني في الدول العربية بأنها “مجازر تُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي، وتفوق بكثير أي تأثير محتمل قد يسببه الصيادون المالطيون على الطيور المحلية والمهاجرة في مصر”.
لكن، وعلى النقيض من الصيادين المالطيين الذين يدفعون آلاف اليوروهات مقابل كل رحلة صيد، يعتمد بعض الصيادين المصريين على الطيور المهاجرة، مثل السمان، كمصدر رئيسٍ للرزق، حيث تُباع في الأسواق المحلية.
وفي هذا السياق، صرح خالد النوبي، المدير التنفيذي لـ جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، قائلاً: “الصيادون المصريون على طول الساحل المتوسطي يستغلون الطيور المهاجرة بشكل مفرط”، مؤكدًا أن “الفقر هو أحد الدوافع الرئيسة لعمليات الصيد الجماعي في بعض القرى، كما أن هذه الطيور تشكل مصدر رزق وطعامًا للعديد منهم”.
وأضاف النوبي أن الأوضاع الاقتصادية ليست الدافع الوحيد؛ حيث أشار إلى أن “الصيد يُعد تقليدًا راسخًا؛ فخلال موسم الهجرة، يجتمع الشبان ويقومون يقومون بشواء الطيور التي تم اصطيادها، ويحوّلون الصيد إلى مناسبة اجتماعية”.
التأثير الاقتصادي على المجتمعات المحلية
أدى حظر الصيد الأخير في بحيرة ناصر، والذي دخل حيز التنفيذ في سبتمبر 2023، إلى تداعيات اقتصادية كبيرة على المجتمعات المحلية التي تعتمد على السياحة كمصدر رئيس للدخل.
خلال زيارتنا إلى بحيرة ناصر، التقينا أمين محمد، وهو مرشد محلي مخضرم ومالك قارب، تحدث عن التأثير الواسع للحظر قائلًا: “لم يؤثر الأمر عليّ فقط؛ بل على العديد من العائلات التي تعتمد على هذا القارب لكسب رزقها. من البقال إلى الحلاق، الجميع يستفيد عندما يأتي السياح، لأنهم ينفقون المال هنا، مما يحافظ على استمرار المجتمع”.
وأوضح محمد كيف أن الصيادين المالطيين، الذين كانوا يشكلون مصدرًا موثوقًا للدخل، قد انتقلوا إلى وجهات أخرى. “لقد توجهوا إلى أماكن مثل الفيوم والمنيا وبني سويف، أي مكان تتوفر فيه المياه. لكنني لا أملك الوسائل للتحرك خلفهم أو نقل عملي إلى هناك”.
حتى الآن، لم تقدم وزارة البيئة أي ردود على استفساراتنا بشأن التدابير الداعمة لأصحاب القوارب المتضررين مثل محمد.
من جهته، انتقد خالد النوبي، المدير التنفيذي لـ جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، اعتماد الصيادين المفرط على بحيرة ناصر، مشيرًا إلى أنهم يفضلون نموذجًا اقتصاديًا قائمًا على الدخل المتوقع من العملاء العائدين، بدلًا من البحث عن مواقع بديلة. وقال ساخرًا: “يدّعون أنهم صيادون منذ أجيال، ومع ذلك يتصرفون كما لو أنهم سيهلكون بدون بحيرة ناصر”.
وأضاف النوبي: “الصيادون المالطيون من بين أسوأ المخالفين في الصيد غير القانوني، وكثير ممن يأتون إلى مصر هم أشخاص فقدوا تراخيصهم بالفعل في مالطا؛ فبناء العمل على أسوأ العملاء، ثم التذمر من القيود، ليس نموذجًا ناجحًا”.
أما فيما يتعلق بالمجتمعات المصرية التي تعتمد على رحلات الصيد كمصدر للرزق، فقد صرّحت أنيا هازكامب، عضو البرلمان الأوروبي عن حزب “من أجل الحيوانات”، قائلة: “إذا كنا نريد حقًا الاستثمار في المجتمعات المحلية؛ فهناك طرق أخرى غير القضاء على حياتهم البرية”.
من “خليج الصيادين” إلى “ملاذ مراقبي الطيور”
يعمل عمرو هادي، مؤسس منظمة “سوبك بلانيت للسياحة البيئية والتدريب”، على حماية الطبيعة في بحيرة ناصر بأسوان، وهو ناشط بيئي شغوف بمكافحة الصيد الجائر.
يؤكد هادي أن المشكلة “ليست فقط في عدد الطيور التي يتم صيدها، بل في الأنواع المستهدفة. لقد رأيت صيادين يتباهون بقتلهم للنسر المصري النادر”، مضيفًا: “الأمر لا يتعلق بالطعام؛ بل بالتفاخر”.
ورغم وجود لوائح وزارة البيئة، يعتقد هادي أن القضية “أكبر من أن تتعامل معها جهة واحدة بمفردها”، مشددًا على أهمية تعاون المجتمع المدني لمواجهة هذه الظاهرة. ويعتبر أن التحدي الأكبر هو تغيير العقليات والثقافة السائدة.
يحذّر هادي: “قد لا نلاحظ التأثير اليوم، لكن إزالة نوع واحد من الكائنات يمكن أن يخلّ بالتوازن البيئي بالكامل”.
من جهته، أوضح إبراهيم، مدير الحفظ في جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، أن “الطيور هي رسل عابرة للحدود”؛ حيث تلعب دورًا حيويًا في عمليات نثر البذور والسيطرة على الآفات، وتصل إلى الأنظمة البيئية في التوقيت المناسب لتتغذى على حشرات معينة، أو تنشر بذورًا ضرورية للحفاظ على التنوع البيولوجي.
السياحة البيئية كبديل مستدام
يرى هادي أن السياحة البيئية، وبخاصة مراقبة الطيور، تمثل فرصة حقيقية لتحقيق دخل مستدام دون الإضرار بالتوازن البيئي، مما يضمن الحفاظ على التنوع البيولوجي للأجيال القادمة.
في ساعات الصباح الباكر، جلسنا على قارب صغير تحت أشعة الشمس الناعمة، على نهر النيل في أسوان. هنا، تحول ميزو إمام، الذي كان في السابق صيادًا، إلى ناشط بيئي يقود رحلات مشاهدة الطيور.
بعد سنوات من مراقبة الصيادين المالطيين وهم يدمرون الحياة البرية بلا حول ولا قوة، قرر إمام أن يسلك طريقًا آخر عبر احتضان السياحة البيئية.
“الصيادون المالطيون قصة مختلفة تمامًا”، تنهد إمام بلهجة محبطة، مضيفًا: “في البداية، كانوا يصطادون بضع طيور هنا وهناك، ثم تحول الأمر إلى جائحة حقيقية. أصبحوا يقتلون كل شيء في مرمى أعينهم: الإوز، الطيور المهاجرة، حتى الحمير”.
يروي إمام حادثة أطلق فيها صيادون مالطيون النار على حيوانات في جزيرة غير مأهولة، ورغم محاولات السكان المحليين التدخل؛ فقد غادر الصيادون تاركين الجزيرة خاوية من الحياة البرية.
لطالما كان موسم الطيور المهاجرة الشتوي في أسوان فترة زاخرة بالحياة، حيث يجذب ليس فقط عشاق الطبيعة؛ بل أيضًا الصيادين الباحثين عن الطرائد النادرة.
“كان الشتاء يجلب الطيور… والصيادين معها”، يتذكر ميزو إمام، بينما يقود قاربه عبر المياه الضحلة. “لكن لم يستغرق الأمر طويلًا حتى هجرت الطيور المنطقة بسبب زخات الرصاص التي لا تنتهي”.
المواجهة مع الصيادين: معركة غير متكافئة
عند سؤاله عما إذا كان قد حاول مواجهة الصيادين، ابتسم إمام بمرارة قائلاً: “أوه، حاولنا بالطبع،” ضحك وهو يهز رأسه: “لكن معظمهم -بمن فيهم كبار منظمي الرحلات- أخبرونا أن نبتعد عن طريقهم. بالنسبة لهم، كان الأمر مجرد تجارة… مصدر دخل لا يمكن المساس به”.
خلال هذه الفترة التي انتشر فيها الصيد الجائر بلا رقابة، التقى إمام بـعمرو هادي، مؤسس “سوبك بلانيت”، الذي طرح عليه رؤيته لبحيرة ناصر كوجهة للسياحة البيئية بدلاً من ساحة للصيد. “كانت فكرة مذهلة،” يعترف إمام، “وأردت أن أكون جزءًا منها”.
حوّل هادي وإمام قارب الصيد إلى منصة للحفاظ على البيئة، مقدمين رحلات مراقبة الطيور التي تتيح للناس الاستمتاع بالطبيعة دون إزعاجها.
يوضح إمام أنه: “في مراقبة الطيور، تبقى الطيور حية”، “يغادر الزوار، وفي اليوم التالي يأتي آخرون ليشاهدوا المشهد نفسه. على عكس الصيد، لا يُدمَّر شيء”.
بالنسبة لإمام، لم يكن التحول إلى السياحة البيئية مجرد تغيير مهني؛ بل كان عودة إلى جذوره.
“لطالما أحببت الطيور منذ طفولتي”. يقول بحنين: “كانت أمي، رحمها الله، تشجعني على الاعتناء بها، حتى إنني كنت أربي الصقور وأدربها على العودة إليّ”.
مشاريع الحفاظ على البيئة في الاتحاد الأوروبي: “إهدار للمال”؟
“لا يعقل أن نحاول في أوروبا حماية الطيور، بينما نسمح للأوروبيين بالسفر إلى مصر لصيدها”. هكذا صرّح مارك سلطانة، الرئيس التنفيذي لمنظمة بيردلايف مالطا، وشدد سلطانة على أن أي مواطن أوروبي لا ينبغي أن يُسمح له بصيد أنواع الطيور المحمية في أوروبا، بغض النظر عن القوانين الأجنبية التي قد تتيح ذلك.
“الأمر ببساطة يتناقض مع جهودنا للحفاظ على البيئة”. وأضاف منتقدًا ازدواجية المعايير التي تسمح باستمرار الصيد الجائر خارج حدود الاتحاد الأوروبي.
تأتي جهود حماية الطيور المهاجرة في أوروبا بتكلفة مرتفعة، إذ تُصنَّف قُمْرِيّ (Turtle Dove) عالميًا ضمن الأنواع “المعرّضة للخطر“، وهي محمية بموجب برنامج LIFE، وهو الأداة التمويلية الأساسية للاتحاد الأوروبي في مجالي البيئة والعمل المناخي. كما أنها أصبحت غير مدرجة في قوائم الصيد السياحي في مصر منذ عام 2022.
ومع ذلك، تظل قُمْرِيّ واحدة من الفرائس المفضلة لدى الصيادين المالطيين.

وفقًا للقانون المالطي؛ فإن جميع الصيادين المالطيين المسجلين، البالغ عددهم 8,041 صيادًا، يُسمح لهم جماعيًا بإطلاق النار على 1,500 قمري فقط خلال موسم الصيد الواحد. ومع ذلك، يمكن لفريق واحد من الصيادين المالطيين في مصر تجاوز هذا العدد في رحلة واحدة فقط.
أجرينا تحليلًا لعشرات مقاطع الفيديو التي تكشف حجم المجزرة؛ ففي فيديو نُشر على فيسبوك بتاريخ 9 ديسمبر 2019، تفاخر صيادون مالطيون ودليل صيد محلي بقتل أكثر من 510 قمريات خلال 90 دقيقة فقط، في حين بلغ إجمالي الصيد اليومي لهم 780 طائرًا.


وتُظهر مقاطع فيديو أخرى أعدادًا ضخمة يتم اصطيادها يوميًا وخلال كل رحلة؛ حيث توثق بعض الصور والفيديوهات صيد 1,500 طائر، و1,000 طائر، و592 طائرًا، و514 طائرًا، و449 طائرًا في يوم واحد فقط، مما يعكس حجم الكارثة البيئية التي تتسبب بها هذه الرحلات.
وجهت عضو البرلمان الأوروبي أنيا هازكامب انتقادات حادة لكيفية إنفاق الأموال على برامج حماية الطيور المهاجرة، ووصفتها بأنها “إهدار للمال وإهدار لجهود كل من يسعى لإنقاذ هذه الطيور الجميلة”، وفقًا لما قالته لنا.
إلى جانب القمري، خصص الاتحاد الأوروبي تمويلًا لحماية النسر المصري، وهو نوع مهدد بالانقراض، ويُعد أيضًا من الطرائد المفضلة لدى الصيادين المالطيين.
تندرج هذه المشاريع ضمن استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتنوع البيولوجي لعام 2030، والتي تهدف إلى حماية الأنواع المهددة وتعزيز النظم البيئية المستدامة.
قمنا بالتواصل مع المفوضية الأوروبية للاستفسار عن مدى فعالية هذه البرامج، خاصةً مع استهداف الطيور المحمية في دول أخرى. لكننا لم نتلقَّ أي رد حتى تاريخ النشر.
مستقبل الحماية الدولية
ترى أنيا هازكامب أن الصيادين لا يجب أن يكونوا جزءًا من جهود الحماية، قائلة: “الأشخاص الذين يستخدمون الأسلحة لقتل الكائنات الأخرى لا ينبغي أن يكونوا معنيين بحمايتها”. رافضةً الحجج التي تدّعي إمكانية تنظيم الصيد بشكل مستدام.
من جانبه، حلّل خالد النوبي، المدير التنفيذي لـجمعية حماية الطبيعة في مصر، التحديات المرتبطة بإشراك الصيادين المالطيين في جهود الحماية، موضحًا أن “طقوسهم تدور حول الصيد الجائر وإطلاق النار في كل الاتجاهات، فهذا جزء من إرثهم الثقافي. من الصعب التوفيق بين هذه العقلية وأهداف الحفاظ على البيئة”.
كبديل للصيادين، اقترح النوبي استقطاب مصورين مالطيين متخصّصين في تصوير الطيور إلى مصر، قائلًا: “دعهم يختبرون جمال بحيرة ناصر من خلال السياحة البيئية، وليس عبر وابلٍ من الرصاص”.
لكن بيرتي فيرنز، مدير برامج تربية الأنواع المهددة، يختلف مع النوبي، معتبرًا أن استبعاد الصيادين من جهود الحماية نهجٌ غير فعّال. وقال: “لا يمكن أن تنجح جهود الحماية إذا اعتُبر الصيادون أعداءً، والمحافظون على البيئة أبطالًا. هذه معركة لن تؤدي إلى أي نتيجة”.
ويرى فيرنز أن التعاون مع الصيادين، بدلًا من تنفيرهم، قد يكون الحل لمشكلة الصيد الجائر من قِبَل المالطيين في الخارج. ويدعو إلى تحديد حصص صيد تستند إلى بيانات علمية دقيقة، مضيفًا: “سواء أحببنا ذلك أم لا؛ فإن الصيد تقليدٌ متجذّر لدى البعض، ويمكن تنظيمه بطريقة مستدامة”.
في مصر، أيّد هيثم إبراهيم، مدير برنامج الحماية في NCE، الدعوات لاعتماد ممارسات مستدامة، مؤكدًا على ضرورة التمييز بين الصيد المشروع والصيد الجائر. وقال: “يشير الصيد الجائر إلى الاستغلال المفرط الذي قد يؤدي إلى انقراض الأنواع أو تقليل الفوائد البيئية التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان”.
من جانبه، يرى كامبل، عالم الأنثروبولوجيا، أن التفاوض مع شخص يسعى في النهاية إلى حظر الصيد تمامًا أمر مستحيل؛ خاصةً إذا كان يعتبر الصيادين “همجيين وغير متحضرين”.
وأضاف كامبل أن “شيطنة الصيادين” تؤدي إلى تفاقم التوترات وزيادة مشاعر انعدام الثقة، معتبرًا أن نهج المواجهة لا يساهم في تحقيق حلول واقعية ومستدامة.
على الطرف الآخر من النقاش، ترى النائبة الأوروبية أنيا هازكامب أن على مصر أن تكون أول من يتخذ إجراءات حازمة من خلال فرض لوائح أكثر صرامة على الصيد. لكنها شددت أيضًا على ضرورة أن يتحول الاتحاد الأوروبي من الأقوال إلى الأفعال. وقالت: “لدى الاتحاد الأوروبي الكثير من العبارات الجميلة على الورق حول مكافحة تهريب الحياة البرية، وحماية التنوع البيولوجي. حان الوقت لاتخاذ إجراءات حقيقية وضمان محاسبة المخالفين”.
أما هاشم مرسي، مراقب الطيور المصري فيعتقد أن “قدرة الاتحاد الأوروبي على التدخل محدودة”، لأن الصيادين يصلون إلى مصر بوثائق قانونية. وأضاف أن المشكلة الحقيقية تبدأ بعد عبورهم الحدود؛ حيث يصبح الالتفاف على القوانين أمرًا سهلاً.
من جهته، شدد مارك سلطانا من بيردلايف مالطا على أهمية تطوير نماذج للحفاظ على البيئة عبر الحدود. وقال: “علينا أن نعمل لجعل مصر تدرك، كما فعلت دول وسط وشرق إفريقيا مع كينيا، أن الطبيعة يمكن أن تكون مصدرًا رئيسًا لجذب السياحة البيئية”.
تواجه الجهود المبذولة لمكافحة الصيد الجائر وتهريب الطيور المهاجرة على يد الصيادين المالطيين، في شمال إفريقيا وأوروبا، تحديات معقدة على عدة مستويات.
ففي حين يستثمر الاتحاد الأوروبي ملايين اليوروهات في حماية هذه الأنواع المهددة، تُقوّض هذه الجهود بسبب استغلال الصيادين الأوروبيين، لضعف إنفاذ القانون في دول خارج الاتحاد الأوروبي مثل مصر.
في الوقت نفسه، تواجه المجتمعات المحلية التي تعتمد على السياحة المرتبطة بالصيد، مستقبلًا اقتصاديًا غامضًا، بينما تتحمل الأنظمة البيئية العبء الأكبر من الاستغلال غير المنضبط.
“الأمر لا يتعلق فقط بالطيور؛ بل ببقاء أنظمتنا البيئية بأكملها، والخيارات التي نتخذها كمجتمع”. حذر خالد النوبي، المدير التنفيذي لجمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، مشددًا على خطورة الوضع.
وأضاف: “إذا سمحنا باستمرار الصيد العشوائي دون تنظيم قائم على أسس علمية؛ فإننا لا نفقد الأنواع فحسب؛ بل نقوض التوازن الدقيق الذي يبقينا جميعًا على قيد الحياة”.
*استخدمنا أسماء مستعارة لدواعٍ أمنية.
أُنتج هذا التحقيق بدعم من
JournalismFund Europe.
تحقيق: محمود السبكي – وائل الصايغ
بينما كانت الشمس تلامس الأفق، مرسلةً خيوطها الذهبية على صفحة نهر النيل، كان مركبنا يتهادى فوق مياه بحيرة ناصر، ونحن نراقب الطيور المهاجرة، تلك الطيور التي قطعت آلاف الكيلومترات من أوروبا إلى إفريقيا بحثًا عن ملاذ آمن من قسوة شتاء أوروبا، لتجد نفسها وسط نيران الصيادين.
في يناير 2024، وسط هذه المشاهد الهادئة، بدأنا نكشف عن عالم خفي من الصيد الجائر، عالم يتقاطع فيه الجمال مع الوحشية؛ حيث تتحول الملاذات الطبيعية إلى ساحات إبادة.
تواترت الأدلة على ذلك، وكانت في كل مكان في مالطا، حيث داهمت وصادرت السلطات مخازن مليئة بجلود وجثث الطيور، ثبت ارتباط العديد منها بعمليات صيد جائر تمت في مصر. مشاهد صادمة لمئات الطيور وقد سلبت منها الحياة، مشاهد موثقة في تقارير الضبط، شاهدةً على مأساة بيئية تتشابك فيها المصالح السياسية والثقافية، مع الإهمال القانوني.
في عام 2017، صُدم هاشم مرسي، مراقب طيور مصري، وهو يجوب الطبيعة مراقبًا الطيور بمشهد مروع، رأى قرابة الـ 7.000 طائر نافق على امتداد 15 كيلومترًا بالقرب من بورسعيد، مع دلالات واضحة على تورط صيادين مالطيين: طيور ملفوفة بأغلفة بلاستيكية تحمل كتابات مالطية.
في مكالمة هاتفية مع محمود*، وهو دليل صيد مخضرم، كشف لنا عن طبيعة الصيادين الأجانب في مصر: “حيث يبحث الصيادون الإيطاليون عن البط، لكن المالطيين يريدون كل شيء. يقتل المالطيون أي شيء يتحرك، حتى الكلاب الضالة إذا سنحت لهم الفرصة، وكنت بصحبة صيادين مالطيين في أسوان، وفعلنا كل ما يمكن فعله هناك”.
من أسوان، تعمق تحقيقنا في الريف المصري، متتبعًا أثرًا قاتمًا يقود إلى الفيوم وما بعدها. وكشفنا هناك بصمات رقمية لمجموعات من الصيادين المالطيين، وهم يتباهون بطرائدهم النادرة على وسائل التواصل الاجتماعي. في قلب هذا النشاط الدموي، تكمن تجارة التحنيط: حيث يتم اصطياد الطيور النادرة وتهريبها بعناية، ليتم حشوها وتحويلها إلى قطع ديكور، تزين غرف المعيشة في مالطا.
في أحد المقاهي الصغيرة المطلة على بحيرة قارون، التقينا بمصطفى*، دليل صيد آخر، لم يتردد في وصف تفضيلات عملائه المالطيين: “النحام (الفلامنغو) وأبو ملعقة؛ هذه هي الطيور التي يفضلونها”، قال مصطفى* قبل أن يضيف جملة تكشف عن حجم التجاوزات: “يمكن أن تكون جالسًا بجانب الماء، وفجأة يظهر غزال فتطلق عليه النار وتصطاده”.
تتبع هذا التحقيق عبر القارات، الخلل العميق في جهود الحماية الدولية؛ حيث باتت مصر التي تعج سماؤها بحوالي 500 نوع من الطيور المهاجرة والمقيمة، مسرحًا لصيد جائر يهدد التوازن البيئي. ومع التعمق في القضية، أصبح حجم التدمير البيئي غير قابل للإنكار.
على مدى عقود، تدفقت ملايين اليوروهات من صناديق الاتحاد الأوروبي لحماية هذه الأنواع، فقط ليتم اصطيادها في مصر بلا رحمة على أيدي صيادين أوروبيين فرّوا من القيود المفروضة عليهم في بلادهم. إنها شبكة تعتاش بالخروج على القانون، حيث تحلق الطيور تحت رحمة الرغبة البشرية في الامتلاك والسيطرة.
من خلال شهادات حصرية من ناشطي الحفاظ على البيئة ومنظمي رحلات الصيد، وسجلات رسمية للمداهمات والاعتقالات، يكشف هذا التحقيق الحاجة الملحّة إلى تعاون دولي حقيقي، لضمان الالتزام بالتعهدات العالمية لحماية الحياة البرية.
تقاليد خرجت عن السيطرة: داخل ثقافة الصيد في مالطا
تعد ثقافة الصيد في مالطا ظاهرة معقدة، متجذرة في التقاليد، لكنها باتت تثير جدلاً متزايداً. يشير البروفيسور مارك فالزون، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة مالطا، إلى أن القيود الجغرافية للجزيرة وقلة الأنواع المحلية تجعل الطيور المهاجرة هدفاً رئيسًا للصيادين.
وتُعد مالطا من بين الدول التي تسجّل أعلى كثافة للصيادين على مستوى العالم، حيث يوجد ما يقارب 75 صيادًا لكل كيلومتر مربع من الأراضي التي يمكن الصيد فيها. ووفقًا للدكتور براين كامبل، المحاضر في الأنثروبولوجيا بجامعة بليموث؛ فإن “الرغبة في الصيد تدفع العديد من الصيادين المالطيين إلى البحث عن آفاق جديدة”، مشيرًا إلى أن قضية الصيد في مالطا أصبحت “ساحة معركة مستقطبة بشدة، حيث تتصادم قضايا السيادة والحفاظ على البيئة والهوية الوطنية بشكل مباشر”.
وقد دفعت القوانين الصارمة للاتحاد الأوروبي العديد من الصيادين المالطيين إلى السفر خارج البلاد لممارسة هوايتهم، وتُعد مصر واحدة من الوجهات المفضلة لديهم. ويؤكد كامبل أن هؤلاء الصيادين يرون في هذه الرحلات “نسختهم الخاصة من الجنة، حيث يطلقون العنان لمكبوت نفوسهم بعيدًا عن القيود المفروضة عليهم في بلادهم”.

يعود تاريخ الصيد في مالطا إلى فترات الفقر، حيث كان السكان يعتمدون على صيد الطيور كمصدر للغذاء. لكن مع مرور الزمن، تحول إلى هواية تحمل دلالات اجتماعية تتعلق بالمكانة،” كما يوضح نيكولاس باربرا، رئيس قسم الحفاظ على البيئة في منظمة BirdLife Malta المحلية.
أما بيرتي فيرنز، مدير برامج تربية الأنواع المهددة، والذي أجرى دراسات حول قوانين الصيد في مالطا؛ فيشير إلى الجاذبية الخاصة التي تتمتع بها الطيور الجارحة بالنسبة للصيادين. ويقول: “الاحتفاظ بنسر محنط في المنزل يمنح شعورًا بالقوة والفخر”.
ويرى البروفيسور مارك فالزون أن الصيد يتجاوز مجرد كونه تقليدًا أو نشاطًا فرديًا، ليصبح جزءًا من هوية الصيادين الاجتماعية، مشبهًا الأمر بتشجيع كرة القدم: “كما يتباهى المشجعون بحضور جميع المباريات في ملاعب مختلفة، يتفاخر الصيادون بمغامراتهم وإنجازاتهم في الصيد. إنها ليست مجرد عادة؛ بل شغف عميق لا ينبغي التقليل من شأنه”.

وأوضح فالزون أن مصطلح “نامرا” -وهو تعبير مالطي يصف الشغف العميق بالصيد- هو ما يميز الصيادين الحقيقيين عن مجرد الهواة. وأضاف: “الصياد الحقيقي هو من يضحي، ويستيقظ في ساعات الفجر الأولى من أجل صيد الطيور”.
لوبي الصيد في مالطا: بين النفوذ السياسي والجدل البيئي
لا يقتصر الصيد في مالطا على كونه مسألة ثقافية؛ بل يُعدّ قوةً سياسيةً مؤثرةً تمتد إلى أعلى مستويات السلطة؛ فقد وُجّهت اتهامات لوزير جزيرة غوزو، كلينت كاميلييري، الذي يُقال إنه من الصيادين وممارسي الفخاخ، بالتحايل على لوائح الاتحاد الأوروبي منذ توليه مسؤولية ملف الصيد عام 2020.
وفي هذا السياق، علّق مارك سلطانة، الرئيس التنفيذي لمنظمة BirdLife Malta، قائلاً: “يعتقد السياسيون في مالطا أنهم مضطرون لمنح الصيادين ما يريدون؛ فقط لضمان الحصول على أصواتهم”.
ومع اقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو 2024، أصدر اتحاد مالطا للصيد (FKNK) بيانًا بعنوان “لماذا يجب أن يصوّت الصيادون وممارسو الفخاخ في الانتخابات الأوروبية؟”، مشيرًا إلى التأثير الكبير الذي سيمارسه أعضاء البرلمان الأوروبي خلال السنوات الخمس المقبلة على صياغة قوانين الصيد، وحماية الأنواع، وتنظيم تشريعات الأسلحة النارية.
أيّد ستة مرشحين من حزب العمال الحاكم في مالطا بيانًا مؤيدًا للصيد، والذي روج له اتحاد مالطا للصيد والحفاظ على البيئة (FKNK)، مما يؤكد التأثير السياسي القوي للوبي الصيد. ومن بين هؤلاء المرشحين كان ستيف إلول، وهو ذو صلة عائلية بشخصيات سبق أن أُدينت بانتهاك قوانين حماية الحياة البرية.
في عام 2022، أُدين عمه ماريو إلول بتجاوز قوانين حماية الطيور؛ حيث تم عقابه وتغريمه بـ 6.000 يورو (ما يعادل 6.360 دولارًا أمريكيًا)، وتم تعليق رخصة التحنيط الخاصة به لمدة عامين. أما كينيث إلول، ابن عم ستيف، فقد غُرّم 1000 ليرة مالطية (ما يعادل 3,130 دولارًا أمريكيًا) عام 2007، لحيازته جلود طيور محمية.
حاولنا التواصل مع كلينت كاميلييري، وستيف، وماريو، وجوزيف، وكينيث إلول، لسؤالهم عما إذا كانوا يعتقدون أن مالطا تخضع لنفوذ سياسي قوي من قبل لوبي الصيد، لكن لم نتلقَ أي رد قبل موعد النشر.
وفي مكالمة هاتفية مع ماريو إلول، قام بإغلاق الخط فور الإشارة إلى رحلات الصيد في مصر.
أكد البروفيسور مارك فالزون، خلال حديثه معنا، أن الاستفتاء المتعلق بالصيد خلال موسم الربيع، كان واحدًا من ثلاثة استفتاءات فقط أُجريت في مالطا خلال الأربعين عامًا الماضية. وقال فالزون: “في مالطا، يُعد الاستفتاء حدثًا نادرًا جدًا […] نحن لسنا في سويسرا. يعطيك ذلك فكرة عن مدى حساسية هذه القضية سياسيًا”.
في 11 أبريل 2015، نظمت تحالفات بيئية استفتاءً يهدف إلى إلغاء الصيد الربيعي لطائري القمري والسمان. وجاءت النتيجة بفارق ضئيل للغاية، حيث صوّت 50.44% لصالح الإبقاء على الصيد، مقابل 49.56% ضده، مما يعكس الانقسام الحاد في المجتمع المالطي حول هذه القضية.
لعبت القوانين المتعلقة بصيد الطيور في الاتحاد الأوروبي (EU’s Birds Directive) دورًا أساسيًا في الضغط على مالطا لتنظيم صيد طائري القمري والسمان؛ خاصة خلال موسم هجرتها الربيعي، في محاولة للحد من تأثير الصيد على هذه الأنواع المهددة بالانقراض.
وصف البروفيسور مارك فالزون اتحاد مالطا للصيد (FKNK) بأنه “لوبي صيد قوي”، لكنه أشار أيضًا إلى دوره المزدوج؛ حيث يدافع عن مصالح الصيادين، بينما يسعى من الناحية الرسمية، إلى تنظيم رحلاتهم للصيد.
وأوضح فالزون أن الاتحاد لا يتسامح رسميًا مع الصيد غير القانوني؛ إذ يواجه الأفراد المدانون بانتهاك قوانين الصيد، خطر فقدان عضويتهم في FKNK، مما يعني عمليًا حرمانهم من الحصول على رخصة صيد.
ومع ذلك، أقر فالزون بأن “هناك فرقًا بين ما يفعله اتحاد الصيد رسميًا، وبين ما قد يفعله بشكل غير رسمي”.
حاولنا التواصل مع لوكاس ميكالف، رئيس اتحاد مالطا للصيد (FKNK)، للحصول على تعليق بشأن النفوذ السياسي للاتحاد ودوره التنظيمي، إضافة إلى الانتهاكات التي ارتكبها الصيادون المالطيون في مصر. لكننا لم نتلقَّ أي رد حتى تاريخ النشر.
التحايل على قوانين الصيد الأوروبية
يفرض الاتحاد الأوروبي قوانين صارمة على الصيد لحماية التنوع البيولوجي؛ لا سيما الطيور المهاجرة؛ ما جعل الانضمام إلى الاتحاد يعني فرض رقابة مشددة على الريف المالطي، وفقًا للبروفيسور مارك فالزون. وأصبحت هذه المناطق ساحة مراقبة دائمة من قبل جماعات الحفاظ على البيئة، مما زاد من التوتر بين الصيادين والنشطاء البيئيين.
وتصاعدت المواجهات بين الطرفين إلى مستويات خطيرة؛ حيث لم يتردد الصيادون في استخدام العنف لحماية هوايتهم؛ فالمعارك في مالطا ليست مجرد خلافات بيئية؛ بل تحولت إلى صراع مفتوح: رصاص يطلق، سيارات تحترق، ونشطاء يواجهون تهديدات لحياتهم. عقود من الترهيب، من إطلاق النار على مراقبي الطيور إلى هجمات الحرق العمد والكمائن. وفي تصعيد مروّع، تعرضت سيارة مارك سلطانة، الرئيس التنفيذي لمنظمة BirdLife Malta، للتخريب؛ حيث تم تمزيق إطاراتها، في رسالة واضحة بأن القضية تتجاوز الصيد إلى صراع على السلطة والنفوذ.
وأكد سلطانة أن هذا التصعيد يفسر لماذا يبحث الصيادون المالطيون عن أماكن صيد خارج البلاد. وقال: “يسافرون إلى مصر ودول أخرى لقتل الطيور، لأنهم يستطيعون القيام بذلك بأعداد أكبر بكثير دون قيود”.
أكد مارك سلطانة “أن أعداد الطيور في مالطا تراجعت بشكل كبير، لكن في إفريقيا؛ حيث تقضي هذه الطيور الشتاء، تصبح أهدافًا سهلة للصيادين قبل هجرتها نحو الشمال”.
برزت وسائل التواصل الاجتماعي كعامل رئيس في تسهيل هذه العمليات؛ حيث أتاحت للصيادين المالطيين التواصل عبر الحدود، ومشاركة صور غنائمهم وإنجازاتهم، مما عزز ثقافة التباهي بالصيد غير المقيد.
وأشار الباحث بيرتي فيرنز إلى أن هذه المنصات تسمح للصيادين المالطيين بمراقبة نظرائهم في مصر ودول أخرى، مما يؤجج إحساسهم بالمظلومية تجاه القوانين الأوروبية الصارمة. وأوضح فيرنز أن الصيادين يتساءلون: “لماذا نتعرض للعقوبات هنا؟ […] بينما يمكن لهذه الطيور أن تهاجر في غضون أيام إلى بلد آخر؛ حيث يصبح الصيد أشبه بفوضى بلا قيود؟”.
انتقد البروفيسور مارك فالزون النهج قصير النظر الذي تتبعه سياسات الاتحاد الأوروبي في حماية الطيور، مشيرًا إلى أن الطيور المهاجرة لا تعترف بالحدود السياسية. وقال فالزون لنا: “لا فائدة من حماية نوع مهاجر في النقطة (أ) إذا كان سيتم قتله في النقطة (ب)”.
وأضاف فالزون أن الخطر لا يقتصر على الطيور المهاجرة فقط؛ بل يمتد ليشمل الأنواع المقيمة في مصر، والتي أصبحت أيضًا ضحية لرحلات الصيد العشوائية التي يقوم بها الصيادون المالطيون.
قوانين الصيد في الاتحاد الأوروبي مقابل مالطا
يفرض توجيه الطيور الأوروبي (Directive 2009/147/EC): حماية جميع أنواع الطيور البرية التي تتواجد بشكل طبيعي في الاتحاد الأوروبي. كما يحظر الصيد خلال فترات حرجة مثل الهجرة والتكاثر، ويقيد بشدة الأنواع التي يمكن صيدها، مع السماح باستثناءات مشروطة لا تؤثر على حالة الحفظ البيئي للأنواع.
تمتد التزامات الاتحاد الأوروبي إلى دعم مشاريع الحفاظ على البيئة من خلال برنامج LIFE، الذي يهدف إلى استعادة الموائل وتأمين مسارات الهجرة.
ما زال قتل وتهريب الطيور البرية يمثل مشكلة خطيرة في الاتحاد الأوروبي. وتشير تقديرات المفوضية الأوروبية إلى أن 25 مليون طائر يتم قتلها سنويًا حول حوض البحر الأبيض المتوسط، خلال هجرتها بين أوروبا وإفريقيا.
بسبب انتهاكات مالطا المستمرة، أحالت المفوضية الأوروبية قضية مالطا إلى محكمة العدل الأوروبية، لا سيما فيما يتعلق بترخيص صيد العصافير المغردة تحت إعفاء بحثي غير قانوني.
في ظل الاتفاق الأخضر الأوروبي واستراتيجية الاتحاد الأوروبي للتنوع البيولوجي 2030، تشكل ممارسات مالطا تهديدًا لأهداف الحفاظ على التنوع البيئي في أوروبا.
القوانين المصرية: تنظيم ضعيف وسط أزمة بيئية متفاقمة
على الرغم من تصاعد الأزمة البيئية، ما زالت قوانين الصيد في مصر تعاني من ضعف في التنفيذ والرقابة.
صرّح هيثم إبراهيم، مدير برامج الحماية في جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، لنا، بأن القوانين الحالية بحاجة إلى إصلاح شامل، مؤكدًا أن الأنظمة القائمة تفشل في حماية الأنواع المهددة بالانقراض، مما يعزز سمعة مصر كوجهة “يمكنك فيها الصيد بسهولة، بعيدًا عن أي قوانين صارمة”.
وفي 27 أغسطس 2024، أصدرت وزارة البيئة المصرية القرار رقم 204، الذي وسّع نطاق تصاريح الصيد السياحي، ليشمل محافظتي الوادي الجديد وسوهاج، مما أثار مخاوف بشأن التأثيرات البيئية المحتملة لهذه التعديلات.

وصف خالد النوبي، المدير التنفيذي لـ مؤسسة حماية الطبيعة في مصر (NCE)، القرار رقم 204 بأنه “كارثة بكل المقاييس”، مشددًا على أن الواحات في الوادي الجديد تُعد من أكثر النظم البيئية هشاشة على الكوكب؛ فهي ملاذ طبيعي للطيور المهاجرة والمقيمة وسط الصحراء الشاسعة.
في حديثه لنا، أوضح هيثم إبراهيم أن الواحات لا تدعم الحياة البرية فحسب؛ بل تعد شريانًا أساسيًا للزراعة وإنتاج التمور، محذرًا من أن انهيار أي جزء من هذا النظام سيؤثر على المنظومة بأكملها. وقارن “إبراهيم” بين الواحات والجزيرة وسط خندق عميق، قائلاً: “بدونها، لا يمكن لأحد العبور إلى الضفة الأخرى”.
انتقد النوبي بشدة القوانين المنظمة للصيد، مؤكدًا الحاجة إلى دراسات معمقة لضمان إدارة مستدامة للموارد الطبيعية. وأضاف: “أي شيء أقل من ذلك هو دعوة إلى كارثة”.
وأشار إبراهيم إلى أن الضغوط التي تمارسها شركات السياحة، قد تكون الدافع وراء إصدار القرار 204، والذي جاء على الأرجح كخطوة تعويضية بعد حظر الصيد في بحيرة ناصر في سبتمبر 2023.
حاولنا التواصل مع وزارة البيئة المصرية للاستفسار عمّا إذا كان قد تم إجراء أي دراسة علمية قبل السماح بالصيد السياحي في الواحات. كما طرحنا تساؤلات حول احتمال وجود ضغوط من قطاع السياحة في اتخاذ هذا القرار، لكننا لم نتلقَّ أي رد في الوقت المناسب للنشر.
منظمو رحلات الصيد
يدخل الصيادون المالطيون إلى مصر بتأشيرات سياحية عادية تُمنح عند الوصول، وفقًا لمنظمي الرحلات والوثائق التي راجعناها. وتصدر التصاريح اللازمة عبر الأمن الوطني ووزارتي البيئة والسياحة.
تعمل شركات محلية وسيطة على تسهيل إجراءات التصاريح، مما يتيح للصيادين إحضار الأسلحة والذخيرة إلى مصر، مع السماح لكل صياد بحمل ما يصل إلى 500 خرطوشة. ولا تقتصر هذه الأنشطة على الجهات المحلية فحسب؛ بل تسهم جهات دولية أيضًا في تسهيل عمليات الصيد غير القانوني للطيور في مصر. كايو إلول، هو أحد الأسماء المتكررة في هذه الشبكات، وقد نشر صورًا عديدة على فيسبوك أثناء ممارسته الصيد في أسوان، وهو قريب لمرشح البرلمان الأوروبي ستيف إلول.

وفقًا للتقرير الوطني للصيد لعام 2005، الممول من الاتحاد الأوروبي؛ فإن عددًا محدودًا من الشركات السياحية المحلية في مصر تنظم رحلات صيد، غالبًا بالتعاون مع مرشدين مستقلين ومشغلي قوارب. من بين الشركات المسجلة في مصر التي تتولى تنظيم رحلات الصيد: إيفل ترافيل ايجيبت، أيبيس، ساجا، ستايلاش هوليديز ترافيل، وايجيبت تايم ترافيل
في بعض الحالات، يتم تنسيق هذه العمليات من خلال شركات سياحة أجنبية.
كما تبين أن :إيفل ترافيل ايجيبت، أيبيس، ، وايجيبت تايم ترافيل قد نظمت رحلات صيد لكل من ماريو، جوزيف، وكينيث إيلول، بالإضافة إلى مواطنين مالطيين آخرين، وجميعهم أدينوا بانتهاك قوانين حماية الطيور البرية.

عند التواصل مع Egypt Time Travel للاستفسار عن دورها في تسهيل رحلات الصيد لعائلة إيلول، ردّت الشركة بأنها “تعمل بتصريح قانوني كامل، وبما يتوافق مع قوانين حماية الحياة البرية المصرية”.
وفي دفاعها عن أنشطتها، أكدت الشركة أيضًا أنها “تعمل بشكل مستقل، وليست مرتبطة بأي جهات أو كيانات غير قانونية”.
أما شركة Eiffel Travel Egypt، فقد أكدت بدورها التزامها بالقوانين المصرية، لكنها نفت أي مسؤولية عن “أي تواصل بين الصيادين وأشخاص لا يعملون لدى الشركة”.
لم تستجب بقية الشركات لطلباتنا للتعليق حتى وقت النشر..
أرض خصبة للصيد
مع بداية موسم الهجرة من سبتمبر إلى مارس، تتدفق الطيور من أوروبا وآسيا إلى مصر، حيث توفر مناطق مثل بحيرة ناصر في أسوان، والفيوم فرصًا واسعة للصيد غير القانوني.
ووفقًا للتقرير الوطني للصيد لعام 2005، برزت بحيرة ناصر كوجهة رئيسية لسياحة الصيد منذ منتصف التسعينيات. عادةً ما يقيم الصيادون على متن قوارب، متنقلين بين مدينة أسوان وقرية أبو سمبل بحثًا عن فرائسهم.

برز حسين شلالي، ابن قرية جزيرة سهيل النوبية، كأحد المدافعين البارزين ضد الصيد الجائر. يقول شلالي لنا: “عملت في بحيرة ناصر، وشاهدت المالطيين يستأجرون قوارب لرحلات طويلة؛ حيث يصطادون الطيور النادرة ويقومون بسلخها للحصول على الريش والجلود الثمينة، والتي يمكن أن تُباع بآلاف الدولارات”.
وأضاف: “إنهم يتركون الجثث على الشاطئ، مما ينشر رائحة كريهة تفسد جمال المواقع التراثية النوبية”.
كما أوضح أن الصيادين يختبرون أسلحتهم بالقرب من القرى، مما يزعج السكان ويعكر صفو الهدوء قبل انطلاقهم في رحلات الصيد.

لطالما واجه دعاة الحفاظ على البيئة صعوبات كبيرة في الحد من الأنشطة غير القانونية في بحيرة ناصر. يقول هيثم إبراهيم، مدير برنامج الحماية البيئية في جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE): “حتى مع وجود التصاريح والإجراءات اللازمة، فإن فرض الرقابة في البحيرة يكاد يكون مستحيلًا بسبب مساحتها الشاسعة. منظمو رحلات الصيد يمتلكون شبكات اتصال خاصة، ويعرفون متى يجب تجنب الدوريات”.

تشتهر الفيوم بمناظرها الطبيعية الخلابة وبحيراتها الهادئة، لكنها أصبحت وجهة مفضلة للصيادين المالطيين. وبعد رصد نشاطهم عبر الإنترنت، قررنا التوجه إلى هناك للتحقيق في ذلك.
في مكالمة هاتفية، وخلال عملنا متخفين، تظاهرنا بأننا نبحث عن فرص صيد لمجموعة من ستة أوروبيين، كشف إيهاب (اسم مستعار)، وهو منظم رحلات صيد مقيم في الفيوم، عن تفاصيل العمليات قائلاً: “لدينا مواقع خاصة في إطسا وسنورس وإبشواي، وهي منظمة جيدًا لاستقبال الصيادين من إيطاليا ومالطا”.
عرض إيهاب باقات صيد شاملة تتضمن الإقامة والتنقل والمرشدين المحليين، إلى جانب توفير كميات كبيرة من الذخيرة، مؤكدًا: 10,000″، 20,000، حتى 50,000 خرطوشة… أي كمية تحتاجها”.، أما المخاوف الأمنية؛ فقد تعامل معها بثقة، قائلاً: “لا تقلق، كل شيء منظم بالكامل، ولن يزعجكم أحد”.

تحنيط الطيور: سوق تغذيها مواقع الصيد في مصر
يواصل شغف المالطيين بتحنيط الطيور، تأجيج سوق سوداء مزدهرة للأنواع المهددة بالانقراض؛ حيث يُقال إن مواقع الصيد في مصر تلعب دورًا رئيسًا في تلبية هذا الطلب.
يشرح البروفيسور مارك فالزون أن الطيور المحنطة كانت جزءًا مألوفًا من ديكور المنازل المالطية منذ الستينيات.
ففي بعض الحالات، يعود الصيادون من مصر حاملين “جلود” الطيور -أي عينات مسطحة من الطيور المذبوحة-، مما يسهل تهريبها. وكشف فالزون عن واقعة مروعة، حيث قام أحد الصيادين المالطيين بربط مئات جلود الطيور على جسده لتجاوز الجمارك، قائلاً:
“هذا الحادث يُظهر مدى اليأس الذي يدفع البعض لتهريب الطيور إلى مالطا”.
وفي زيارة لـ المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في مالطا في فبراير 2024، اكتشفنا وجود أكثر من 15,000 طائر مُصادَر، موزعة بين جثث مخزنة في المجمدات وبين عينات محنطة.
وفقًا لمصادر تحدثت بشرط عدم الكشف عن هويتها؛ فإن 15-20% من هذه الطيور المصادَرة، مصدرها مصر. منذ عام 2004، أصبح المتحف الوطني بمثابة مستودع رسمي للطيور المصادَرة.
على الرغم من الجهود المبذولة للحد من الصيد غير القانوني، ما زال سوق التحنيط في مالطا مزدهرًا، مستفيدًا من ثغرات قانونية وتراخٍ في الرقابة. يُسلّط مارك سلطانة، المدير التنفيذي لمنظمة بيرد لايف مالطا، الضوء على دور “المجموعات غير المرئية من الطيور”، التي تعمل تحت غطاء عفوٍ قانوني سابق لانضمام مالطا إلى الاتحاد الأوروبي، مما سمح بامتلاك الطيور المحنطة بشكل غير قانوني دون محاسبة.
يشرح سلطان: “لم يتم التحقق من هذه القوائم بدقة، لذا يمكن إضافة طائر لقلق أبيض تم صيده حديثًا إلى مجموعة قديمة دون أن يتخذ أحد أي إجراء”.
لفهم كيفية انتقال هذه الطيور المهربة، سافرنا مجددًا إلى مصر في مارس 2024 للتحقق من كيفية عمل الشبكات التي تُسهل هذا النشاط.
من مصر إلى مالطا: مسار التهريب
يصف هاشم مرسي، أحد مراقبي الطيور المصريين، اكتشافًا مروعًا حدث في أبريل 2017 على ساحل بورسعيد: “عثرنا على حوالي 7,000 طائر نافق على امتداد 15 كيلومترًا”. كانت الطيور ملفوفة بأكياس بلاستيكية مختومة بالكلمة المالطية “Marzu” (مارس)، في إشارة إلى صيد حديث بنيّة تهريب الطرائد. لكن لسبب غير واضح، تم التخلص منها قبل وصولها إلى وجهتها.
كان من بين الطيور أنواع نادرة ومحمية مثل اللقلق ذو المنقار الأصفر ، طيور جارحة، اللقلق الأبيض ، أبو ملعقة الأوراسي، النحام الكبير (الفلامنغو الكبير). ذكر “مرسي” لنا أن منظمة “بيرد لايف مالطا أكدت “ دور الصيادين المالطيين في هذه الانتهاكات، وحثت السلطات المصرية على اتخاذ إجراءات صارمة ضدهم.
في عام 2020، نشر عالم الطيور الألماني يانز هيرينغ دراسة سلطت الضوء على التهديدات التي تواجه الطيور المهاجرة، مشيرًا إلى أن “صيد اللقلق ذو المنقار الأصفر والطيور المائية في بحيرة ناصر، وخاصة من قبل الصيادين المالطيين والمحليين، يبدو كبيرًا للغاية”.
سعياً لفهم آليات التهريب، تواصلنا مع مصطفى، وهو شاب دليل صيد مخضرم في الفيوم*. عندما سألناه عن قانونية الصيد في مصر، وخاصة للطيور المهددة بالانقراض، أجاب بلهجة حذرة ولكن واضحة: “أغراضك؟ لك وحدك. تأخذها معك دون أي مشاكل”.
في مقابلة سرية بكاميرا مخفية على ضفاف بحيرة قارون، كشف لنا مصطفى عن الطيور التي يفضلها الصيادون المالطيون: “الفلامنغو وأبو ملعقة – هذه الطيور التي يحبونها.

يبدو أن جاذبية الصيد في مصر لا تخلو من المخاطر، لكن مصطفى* يطمئن زبائنه بأن كل شيء تحت السيطرة.
“بعض الطيور، مثل الفلامنغو، يُحظر صيدها لأنها مهاجرة”، يقولها بابتسامة ذات مغزى.
القاعدة الذهبية وفقًا لمصطفى: “الصيد في الأماكن التي لا تخضع لرقابة الحكومة”. ورغم أن بحيرة قارون، محمية طبيعية، إلا أنه يمكن الوصول إلى مناطق معينة منها بعيدًا عن أعين السلطات.
للباحثين عن تجربة صيد أكثر تحديًا، يروج مصطفى* لمحافظة أسوان، وخاصة قرب أبو سمبل، حيث يمكن استهداف الطيور النادرة.
توسع مصطفى* في شرح عمليات التهريب، كاشفًا عن الأساليب المتبعة في تهريب الطيور المصطادة. يتم لف الطيور في غلاف بلاستيكي شفاف، ثم تُحفظ في مجمدات لفترة تصل إلى شهرين قبل أن تُعبأ مع الثلج على متن سفن الشحن. وأكد بثقة: “كل شيء يتم بسرية تامة، يتم إخفاؤها بين بضائع أخرى”، مشيرًا إلى وجود علاقات لهم داخل قطاع الشحن تسهّل عمليات التصدير غير القانوني.
وأضاف مصطفى*: “بمجرد أن نقوم بتحنيط الطيور، نشحنها عن طريق البحر، من الفيوم إلى بورسعيد، ثم مباشرة إلى مالطا”. ويشابه هذا المسار حادثة عام 2017، عندما عُثر على آلاف الطيور النافقة، مختومة بعلامات مالطية، على طول سواحل بورسعيد.

وفقًا لعُمران أحمد، وهو قائد قوارب في بحيرة ناصر، فإنه “عندما تكون إجراءات الأمن في المطارات مشددة، يلجأ المهربون إلى استخدام القوارب السريعة من منطقة شطا، قرب بورسعيد ودمياط”.
في 2 ديسمبر 2024، نشر مصطفى* على حسابه في فيسبوك صورًا له برفقة صياد مالطي في الفيوم، وهو يحمل عدة طيور مصطادة، من بينها أبو منجل اللامع، وطيور جارحة (عُقاب نَسْرِيّ وعُقاب السهوب)، وأنواع أخرى محمية. لكن لم تمضِ سوى دقائق قليلة حتى تم حذف الصور بسرعة، مما أثار تساؤلات حول دوافع الإزالة الفورية.
مصدر رزق أم ترف؟
تواصلنا مع منظمة “صيادو سانت هوبرت” (KSU)، وهي منظمة صيد مالطية تُعرف بترويجها لمدونة سلوك صارمة، للاستفسار عن أنشطة الصيد التي يمارسها المالطيون في مصر. في فبراير 2016، أنهت KSU ارتباطها باتحاد الصيادين المالطي الرئيسي FKNK.
وفي رده الكتابي لنا ، صرح رئيس المنظمة، مارك مفسود: “نستنكر قتل الطيور المحمية أينما كانت، ومن قِبَل أي شخص يرتكب هذه الجريمة”. وأقرّ بأن بعض الصيادين المالطيين يسافرون إلى مصر للصيد، لكنه انتقد التركيز الإعلامي على مالطا، مشيرًا إلى أن “مالطا لديها قوانين صارمة لمعاقبة مثل هذه الجرائم، على عكس دول مثل مصر؛ حيث أصبحت مجازر صيد الطيور هي القاعدة”.
ووصف مفسود عمليات الصيد غير القانوني في الدول العربية بأنها “مجازر تُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي، وتفوق بكثير أي تأثير محتمل قد يسببه الصيادون المالطيون على الطيور المحلية والمهاجرة في مصر”.
لكن، وعلى النقيض من الصيادين المالطيين الذين يدفعون آلاف اليوروهات مقابل كل رحلة صيد، يعتمد بعض الصيادين المصريين على الطيور المهاجرة، مثل السمان، كمصدر رئيسٍ للرزق، حيث تُباع في الأسواق المحلية.
وفي هذا السياق، صرح خالد النوبي، المدير التنفيذي لـ جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، قائلاً: “الصيادون المصريون على طول الساحل المتوسطي يستغلون الطيور المهاجرة بشكل مفرط”، مؤكدًا أن “الفقر هو أحد الدوافع الرئيسة لعمليات الصيد الجماعي في بعض القرى، كما أن هذه الطيور تشكل مصدر رزق وطعامًا للعديد منهم”.
وأضاف النوبي أن الأوضاع الاقتصادية ليست الدافع الوحيد؛ حيث أشار إلى أن “الصيد يُعد تقليدًا راسخًا؛ فخلال موسم الهجرة، يجتمع الشبان ويقومون يقومون بشواء الطيور التي تم اصطيادها، ويحوّلون الصيد إلى مناسبة اجتماعية”.
التأثير الاقتصادي على المجتمعات المحلية
أدى حظر الصيد الأخير في بحيرة ناصر، والذي دخل حيز التنفيذ في سبتمبر 2023، إلى تداعيات اقتصادية كبيرة على المجتمعات المحلية التي تعتمد على السياحة كمصدر رئيس للدخل.
خلال زيارتنا إلى بحيرة ناصر، التقينا أمين محمد، وهو مرشد محلي مخضرم ومالك قارب، تحدث عن التأثير الواسع للحظر قائلًا: “لم يؤثر الأمر عليّ فقط؛ بل على العديد من العائلات التي تعتمد على هذا القارب لكسب رزقها. من البقال إلى الحلاق، الجميع يستفيد عندما يأتي السياح، لأنهم ينفقون المال هنا، مما يحافظ على استمرار المجتمع”.
وأوضح محمد كيف أن الصيادين المالطيين، الذين كانوا يشكلون مصدرًا موثوقًا للدخل، قد انتقلوا إلى وجهات أخرى. “لقد توجهوا إلى أماكن مثل الفيوم والمنيا وبني سويف، أي مكان تتوفر فيه المياه. لكنني لا أملك الوسائل للتحرك خلفهم أو نقل عملي إلى هناك”.
حتى الآن، لم تقدم وزارة البيئة أي ردود على استفساراتنا بشأن التدابير الداعمة لأصحاب القوارب المتضررين مثل محمد.
من جهته، انتقد خالد النوبي، المدير التنفيذي لـ جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، اعتماد الصيادين المفرط على بحيرة ناصر، مشيرًا إلى أنهم يفضلون نموذجًا اقتصاديًا قائمًا على الدخل المتوقع من العملاء العائدين، بدلًا من البحث عن مواقع بديلة. وقال ساخرًا: “يدّعون أنهم صيادون منذ أجيال، ومع ذلك يتصرفون كما لو أنهم سيهلكون بدون بحيرة ناصر”.
وأضاف النوبي: “الصيادون المالطيون من بين أسوأ المخالفين في الصيد غير القانوني، وكثير ممن يأتون إلى مصر هم أشخاص فقدوا تراخيصهم بالفعل في مالطا؛ فبناء العمل على أسوأ العملاء، ثم التذمر من القيود، ليس نموذجًا ناجحًا”.
أما فيما يتعلق بالمجتمعات المصرية التي تعتمد على رحلات الصيد كمصدر للرزق، فقد صرّحت أنيا هازكامب، عضو البرلمان الأوروبي عن حزب “من أجل الحيوانات”، قائلة: “إذا كنا نريد حقًا الاستثمار في المجتمعات المحلية؛ فهناك طرق أخرى غير القضاء على حياتهم البرية”.
من “خليج الصيادين” إلى “ملاذ مراقبي الطيور”
يعمل عمرو هادي، مؤسس منظمة “سوبك بلانيت للسياحة البيئية والتدريب”، على حماية الطبيعة في بحيرة ناصر بأسوان، وهو ناشط بيئي شغوف بمكافحة الصيد الجائر.
يؤكد هادي أن المشكلة “ليست فقط في عدد الطيور التي يتم صيدها، بل في الأنواع المستهدفة. لقد رأيت صيادين يتباهون بقتلهم للنسر المصري النادر”، مضيفًا: “الأمر لا يتعلق بالطعام؛ بل بالتفاخر”.
ورغم وجود لوائح وزارة البيئة، يعتقد هادي أن القضية “أكبر من أن تتعامل معها جهة واحدة بمفردها”، مشددًا على أهمية تعاون المجتمع المدني لمواجهة هذه الظاهرة. ويعتبر أن التحدي الأكبر هو تغيير العقليات والثقافة السائدة.
يحذّر هادي: “قد لا نلاحظ التأثير اليوم، لكن إزالة نوع واحد من الكائنات يمكن أن يخلّ بالتوازن البيئي بالكامل”.
من جهته، أوضح إبراهيم، مدير الحفظ في جمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، أن “الطيور هي رسل عابرة للحدود”؛ حيث تلعب دورًا حيويًا في عمليات نثر البذور والسيطرة على الآفات، وتصل إلى الأنظمة البيئية في التوقيت المناسب لتتغذى على حشرات معينة، أو تنشر بذورًا ضرورية للحفاظ على التنوع البيولوجي.
السياحة البيئية كبديل مستدام
يرى هادي أن السياحة البيئية، وبخاصة مراقبة الطيور، تمثل فرصة حقيقية لتحقيق دخل مستدام دون الإضرار بالتوازن البيئي، مما يضمن الحفاظ على التنوع البيولوجي للأجيال القادمة.
في ساعات الصباح الباكر، جلسنا على قارب صغير تحت أشعة الشمس الناعمة، على نهر النيل في أسوان. هنا، تحول ميزو إمام، الذي كان في السابق صيادًا، إلى ناشط بيئي يقود رحلات مشاهدة الطيور.
بعد سنوات من مراقبة الصيادين المالطيين وهم يدمرون الحياة البرية بلا حول ولا قوة، قرر إمام أن يسلك طريقًا آخر عبر احتضان السياحة البيئية.
“الصيادون المالطيون قصة مختلفة تمامًا”، تنهد إمام بلهجة محبطة، مضيفًا: “في البداية، كانوا يصطادون بضع طيور هنا وهناك، ثم تحول الأمر إلى جائحة حقيقية. أصبحوا يقتلون كل شيء في مرمى أعينهم: الإوز، الطيور المهاجرة، حتى الحمير”.
يروي إمام حادثة أطلق فيها صيادون مالطيون النار على حيوانات في جزيرة غير مأهولة، ورغم محاولات السكان المحليين التدخل؛ فقد غادر الصيادون تاركين الجزيرة خاوية من الحياة البرية.
لطالما كان موسم الطيور المهاجرة الشتوي في أسوان فترة زاخرة بالحياة، حيث يجذب ليس فقط عشاق الطبيعة؛ بل أيضًا الصيادين الباحثين عن الطرائد النادرة.
“كان الشتاء يجلب الطيور… والصيادين معها”، يتذكر ميزو إمام، بينما يقود قاربه عبر المياه الضحلة. “لكن لم يستغرق الأمر طويلًا حتى هجرت الطيور المنطقة بسبب زخات الرصاص التي لا تنتهي”.
المواجهة مع الصيادين: معركة غير متكافئة
عند سؤاله عما إذا كان قد حاول مواجهة الصيادين، ابتسم إمام بمرارة قائلاً: “أوه، حاولنا بالطبع،” ضحك وهو يهز رأسه: “لكن معظمهم -بمن فيهم كبار منظمي الرحلات- أخبرونا أن نبتعد عن طريقهم. بالنسبة لهم، كان الأمر مجرد تجارة… مصدر دخل لا يمكن المساس به”.
خلال هذه الفترة التي انتشر فيها الصيد الجائر بلا رقابة، التقى إمام بـعمرو هادي، مؤسس “سوبك بلانيت”، الذي طرح عليه رؤيته لبحيرة ناصر كوجهة للسياحة البيئية بدلاً من ساحة للصيد. “كانت فكرة مذهلة،” يعترف إمام، “وأردت أن أكون جزءًا منها”.
حوّل هادي وإمام قارب الصيد إلى منصة للحفاظ على البيئة، مقدمين رحلات مراقبة الطيور التي تتيح للناس الاستمتاع بالطبيعة دون إزعاجها.
يوضح إمام أنه: “في مراقبة الطيور، تبقى الطيور حية”، “يغادر الزوار، وفي اليوم التالي يأتي آخرون ليشاهدوا المشهد نفسه. على عكس الصيد، لا يُدمَّر شيء”.
بالنسبة لإمام، لم يكن التحول إلى السياحة البيئية مجرد تغيير مهني؛ بل كان عودة إلى جذوره.
“لطالما أحببت الطيور منذ طفولتي”. يقول بحنين: “كانت أمي، رحمها الله، تشجعني على الاعتناء بها، حتى إنني كنت أربي الصقور وأدربها على العودة إليّ”.
مشاريع الحفاظ على البيئة في الاتحاد الأوروبي: “إهدار للمال”؟
“لا يعقل أن نحاول في أوروبا حماية الطيور، بينما نسمح للأوروبيين بالسفر إلى مصر لصيدها”. هكذا صرّح مارك سلطانة، الرئيس التنفيذي لمنظمة بيردلايف مالطا، وشدد سلطانة على أن أي مواطن أوروبي لا ينبغي أن يُسمح له بصيد أنواع الطيور المحمية في أوروبا، بغض النظر عن القوانين الأجنبية التي قد تتيح ذلك.
“الأمر ببساطة يتناقض مع جهودنا للحفاظ على البيئة”. وأضاف منتقدًا ازدواجية المعايير التي تسمح باستمرار الصيد الجائر خارج حدود الاتحاد الأوروبي.
تأتي جهود حماية الطيور المهاجرة في أوروبا بتكلفة مرتفعة، إذ تُصنَّف قُمْرِيّ (Turtle Dove) عالميًا ضمن الأنواع “المعرّضة للخطر“، وهي محمية بموجب برنامج LIFE، وهو الأداة التمويلية الأساسية للاتحاد الأوروبي في مجالي البيئة والعمل المناخي. كما أنها أصبحت غير مدرجة في قوائم الصيد السياحي في مصر منذ عام 2022.
ومع ذلك، تظل قُمْرِيّ واحدة من الفرائس المفضلة لدى الصيادين المالطيين.

وفقًا للقانون المالطي؛ فإن جميع الصيادين المالطيين المسجلين، البالغ عددهم 8,041 صيادًا، يُسمح لهم جماعيًا بإطلاق النار على 1,500 قمري فقط خلال موسم الصيد الواحد. ومع ذلك، يمكن لفريق واحد من الصيادين المالطيين في مصر تجاوز هذا العدد في رحلة واحدة فقط.
أجرينا تحليلًا لعشرات مقاطع الفيديو التي تكشف حجم المجزرة؛ ففي فيديو نُشر على فيسبوك بتاريخ 9 ديسمبر 2019، تفاخر صيادون مالطيون ودليل صيد محلي بقتل أكثر من 510 قمريات خلال 90 دقيقة فقط، في حين بلغ إجمالي الصيد اليومي لهم 780 طائرًا.


وتُظهر مقاطع فيديو أخرى أعدادًا ضخمة يتم اصطيادها يوميًا وخلال كل رحلة؛ حيث توثق بعض الصور والفيديوهات صيد 1,500 طائر، و1,000 طائر، و592 طائرًا، و514 طائرًا، و449 طائرًا في يوم واحد فقط، مما يعكس حجم الكارثة البيئية التي تتسبب بها هذه الرحلات.
وجهت عضو البرلمان الأوروبي أنيا هازكامب انتقادات حادة لكيفية إنفاق الأموال على برامج حماية الطيور المهاجرة، ووصفتها بأنها “إهدار للمال وإهدار لجهود كل من يسعى لإنقاذ هذه الطيور الجميلة”، وفقًا لما قالته لنا.
إلى جانب القمري، خصص الاتحاد الأوروبي تمويلًا لحماية النسر المصري، وهو نوع مهدد بالانقراض، ويُعد أيضًا من الطرائد المفضلة لدى الصيادين المالطيين.
تندرج هذه المشاريع ضمن استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتنوع البيولوجي لعام 2030، والتي تهدف إلى حماية الأنواع المهددة وتعزيز النظم البيئية المستدامة.
قمنا بالتواصل مع المفوضية الأوروبية للاستفسار عن مدى فعالية هذه البرامج، خاصةً مع استهداف الطيور المحمية في دول أخرى. لكننا لم نتلقَّ أي رد حتى تاريخ النشر.
مستقبل الحماية الدولية
ترى أنيا هازكامب أن الصيادين لا يجب أن يكونوا جزءًا من جهود الحماية، قائلة: “الأشخاص الذين يستخدمون الأسلحة لقتل الكائنات الأخرى لا ينبغي أن يكونوا معنيين بحمايتها”. رافضةً الحجج التي تدّعي إمكانية تنظيم الصيد بشكل مستدام.
من جانبه، حلّل خالد النوبي، المدير التنفيذي لـجمعية حماية الطبيعة في مصر، التحديات المرتبطة بإشراك الصيادين المالطيين في جهود الحماية، موضحًا أن “طقوسهم تدور حول الصيد الجائر وإطلاق النار في كل الاتجاهات، فهذا جزء من إرثهم الثقافي. من الصعب التوفيق بين هذه العقلية وأهداف الحفاظ على البيئة”.
كبديل للصيادين، اقترح النوبي استقطاب مصورين مالطيين متخصّصين في تصوير الطيور إلى مصر، قائلًا: “دعهم يختبرون جمال بحيرة ناصر من خلال السياحة البيئية، وليس عبر وابلٍ من الرصاص”.
لكن بيرتي فيرنز، مدير برامج تربية الأنواع المهددة، يختلف مع النوبي، معتبرًا أن استبعاد الصيادين من جهود الحماية نهجٌ غير فعّال. وقال: “لا يمكن أن تنجح جهود الحماية إذا اعتُبر الصيادون أعداءً، والمحافظون على البيئة أبطالًا. هذه معركة لن تؤدي إلى أي نتيجة”.
ويرى فيرنز أن التعاون مع الصيادين، بدلًا من تنفيرهم، قد يكون الحل لمشكلة الصيد الجائر من قِبَل المالطيين في الخارج. ويدعو إلى تحديد حصص صيد تستند إلى بيانات علمية دقيقة، مضيفًا: “سواء أحببنا ذلك أم لا؛ فإن الصيد تقليدٌ متجذّر لدى البعض، ويمكن تنظيمه بطريقة مستدامة”.
في مصر، أيّد هيثم إبراهيم، مدير برنامج الحماية في NCE، الدعوات لاعتماد ممارسات مستدامة، مؤكدًا على ضرورة التمييز بين الصيد المشروع والصيد الجائر. وقال: “يشير الصيد الجائر إلى الاستغلال المفرط الذي قد يؤدي إلى انقراض الأنواع أو تقليل الفوائد البيئية التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان”.
من جانبه، يرى كامبل، عالم الأنثروبولوجيا، أن التفاوض مع شخص يسعى في النهاية إلى حظر الصيد تمامًا أمر مستحيل؛ خاصةً إذا كان يعتبر الصيادين “همجيين وغير متحضرين”.
وأضاف كامبل أن “شيطنة الصيادين” تؤدي إلى تفاقم التوترات وزيادة مشاعر انعدام الثقة، معتبرًا أن نهج المواجهة لا يساهم في تحقيق حلول واقعية ومستدامة.
على الطرف الآخر من النقاش، ترى النائبة الأوروبية أنيا هازكامب أن على مصر أن تكون أول من يتخذ إجراءات حازمة من خلال فرض لوائح أكثر صرامة على الصيد. لكنها شددت أيضًا على ضرورة أن يتحول الاتحاد الأوروبي من الأقوال إلى الأفعال. وقالت: “لدى الاتحاد الأوروبي الكثير من العبارات الجميلة على الورق حول مكافحة تهريب الحياة البرية، وحماية التنوع البيولوجي. حان الوقت لاتخاذ إجراءات حقيقية وضمان محاسبة المخالفين”.
أما هاشم مرسي، مراقب الطيور المصري فيعتقد أن “قدرة الاتحاد الأوروبي على التدخل محدودة”، لأن الصيادين يصلون إلى مصر بوثائق قانونية. وأضاف أن المشكلة الحقيقية تبدأ بعد عبورهم الحدود؛ حيث يصبح الالتفاف على القوانين أمرًا سهلاً.
من جهته، شدد مارك سلطانا من بيردلايف مالطا على أهمية تطوير نماذج للحفاظ على البيئة عبر الحدود. وقال: “علينا أن نعمل لجعل مصر تدرك، كما فعلت دول وسط وشرق إفريقيا مع كينيا، أن الطبيعة يمكن أن تكون مصدرًا رئيسًا لجذب السياحة البيئية”.
تواجه الجهود المبذولة لمكافحة الصيد الجائر وتهريب الطيور المهاجرة على يد الصيادين المالطيين، في شمال إفريقيا وأوروبا، تحديات معقدة على عدة مستويات.
ففي حين يستثمر الاتحاد الأوروبي ملايين اليوروهات في حماية هذه الأنواع المهددة، تُقوّض هذه الجهود بسبب استغلال الصيادين الأوروبيين، لضعف إنفاذ القانون في دول خارج الاتحاد الأوروبي مثل مصر.
في الوقت نفسه، تواجه المجتمعات المحلية التي تعتمد على السياحة المرتبطة بالصيد، مستقبلًا اقتصاديًا غامضًا، بينما تتحمل الأنظمة البيئية العبء الأكبر من الاستغلال غير المنضبط.
“الأمر لا يتعلق فقط بالطيور؛ بل ببقاء أنظمتنا البيئية بأكملها، والخيارات التي نتخذها كمجتمع”. حذر خالد النوبي، المدير التنفيذي لجمعية حماية الطبيعة في مصر (NCE)، مشددًا على خطورة الوضع.
وأضاف: “إذا سمحنا باستمرار الصيد العشوائي دون تنظيم قائم على أسس علمية؛ فإننا لا نفقد الأنواع فحسب؛ بل نقوض التوازن الدقيق الذي يبقينا جميعًا على قيد الحياة”.
*استخدمنا أسماء مستعارة لدواعٍ أمنية.
أُنتج هذا التحقيق بدعم من
JournalismFund Europe.